علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
عدنان الحاجي
عن الكاتب :
من المترجمين المتمرسين بالأحساء بدأ الترجمة عام ٢٠١١، مطّلعٌ على ما ينشر بشكل يومي في الدوريات العلمية ومحاضر المؤتمرات العلمية التي تعقد دوريًّا في غير مكان، وهو يعمل دائمًا على ترجمة المفيد منها.

مؤقّتات خفيّة في الدماغ تتحكّم في الاحتفاظ بالذّاكرة أو نسيانها

ترجمة عدنان أحمد الحاجي

 

بما أن الدماغ لا يستطيع الاحتفاظ بكل الذكريات، لذا ضمن أهم الوظائف التي يقوم بها هي اختيار الذكريات (التجارب والأحداث) التي يخزَّنها في الذاكرة، وتلك التي لا يحتفظ بها، وبالتالي تُمحى وتذهب في طي النسيان. طوال عشرات السنين، افترض باحثون أن هذه العملية تُحكمها مفاتيح تشغيل (للاحتفاظ بالذاكرة) وإيقاف (للمحو والنسيان) بسيطة في الدماغ. لكن دراسة (1) جديدة نُشرت في مجلة Nature قلبت هذا التصور رأسًا على عقب، مُثبتةً أن استمرار الذاكرة والاحتفاظ بها تُنظم بواسطة تتالي مؤقتات (timers) جزيئية (عمليات كيميائية وجينية تتغير بمرور الزمن) تتخلل عدة مناطق دماغية.

 

وتكشف النتائج، الصادرة عن مختبر سكولر هورباخ Skoler Horbach Family لعائلة ديناميكيات الأعصاب والإدراك التابع لجامعة روكفلر، بقيادة بريا راجاسيثوباثي Priya Rajasethupathy، أن عقدة (منطقة دماغية) غير متوقعة - وهي المهاد - لها دور محوري في توجيه الذكريات من ذكريات قصيرة الأمد إلى ذكريات طويلة الأمد، عبر برامج جينية (مجموعات منسقة من الجينات تتحكم في الوظائف البيولوجية) توطد كل ذاكرة تدريجيًّا وتجعلها ذاكرة طويلة أمد. لا تُقدِّم هذه الاكتشافات إطارًا جديدًا لطريقة فرز الدماغ للذاكرة بحسب أهميتها وحفظها فحسب، بل تفتح أيضًا آفاقًا لاستراتيجيات جديدة ممكنة لعلاج اضطرابات الذاكرة (العمه والزهايمر وفقدان الذاكرة (2)).

 

جلسنا مع راجاسيثوباثي لمناقشة كيف كشف فريقها البحثي عن هذه المؤقتات الخفية، ولماذا الذاكرة ربما تكون أكثر مرونة (حيث الذاكرة ليست ثابتة بل تتغير باستمرار، وقد تقوى أو تضعف قبل أن تستقر مجددًا) مما كنا نعتقد، وماذا قد تعني نتائج هذه الدراسة لمرض الزهايمر وما بعده، بحيث نأمل أن يساعدنا في فهم لماذا ينسى المصاب بالمرض وكيف نتمكن من علاج هذا النسيان.

 

كيف فكر علماء الأعصاب سابقًا في تكوِّن الذاكرة؟

 

لفترة طويلة، عندما كان العلماء يحاولون فهم كيف نحتفظ بذكريات طويلة الأمد، كان النموذج السائد هو وجود جزيئات ذاكرة تشبه الترانزستور. شيء ما مزود بمفتاح تشغيل/إيقاف، فإذا قمت بتشغيل هذا المفتاح، يتم وضع علامة "تشغيل" على الذاكرة وتبقى كذلك إلى الأبد. تُعد فكرة هذه المفاتيح فكرة جذابة لأنها تعطينا آلية لتشفير التجارب (تحويل المدخلات الحسية إلى معلومات يخزنها الدماغ ويستطيع استرجاعها) العابرة (السريعة الزوال) إلى تغييرات دائمة في الدماغ (ذاكرة طويلة الأمد). ربما كانت هذه المفاتيح عبارة عن إنزيمات/ بروتينات طويلة الأمد، أو تعديلات على الحمض النووي، أو تغييرات ميكانيكية في بنية المشابك العصبية أو الخلايا، لكن الفكرة السائدة في هذا المجال كانت وجود نوع من المفتاح الدائم الذي يُخبر الدماغ بالاحتفاظ بهذه الذاكرة على المدى الطويل.

 

إذن، ماذا يحدث فعلاً؟

 

من أهم نتائج دراستنا أننا لا يجب أن ننظر إلى عملية تحويل الذاكرة قصيرة الأمد إلى ذاكرة طويلة الأمد على أنها عملية واحدة جيث يخزن الدماغ الحدث بعد وقوعه في خطوة واحدة، وبعدها تثبت الذاكرة بشكل دائم. بل هي عملية تدريجية، تتكون الذاكرة ويعدل عليها ثم تحفظ بمرور الزمن. الدماغ يضبط أحد المؤقتات، قل لبضع دقائق. إذا استمرت أهمية الذاكرة، يُوطدها الدماغ ويُفعّل المؤقت التالي والذي قد يستمر لبضع ساعات. وإذا بقيت تلك الذاكرة مهمة، يُفعّل الدماغ المؤقت الذي بعده والذي قد يستمر لأيام، ثم أسابيع، وهكذا.

 

وفقًا لهذا المنظور، يمكن تكوين ذاكرة لكل ما نمر به من أحداث وتجارب، لكن لدينا آليات للنسيان السريع - ما لم تفعل هذه الذاكرة على أحد هذه المؤقتات. في دراستنا الحالية، تعرفنا على ثلاثة من هذه المؤقتات التي تسمح للذكريات بالاستمرار لفترات أطول وأطول.

 

نعم، كان هذا جانبًا مهمًّا من دراستنا. تكمن قوة نموذج المفتاح في قدرته على تفسير استمرارية الذاكرة. لكن هذا النموذج (الفكرة التي اقترحها الباحثون قديمًا)، مع كفاءته في التخزين، ضعيف في حالة النسيان. فلو كانت الذاكرة تعتمد على تشغيل مفتاح دائم، لكان من الصعب نسيان شيء ما في المستقبل سبق تخزينه في الذاكرة طويلة الأمد. يقدم نموذج سلسلة المؤقتات تفسيرًا لطريقة احتفاظ الدماغ بمرونته في تعزيز الذكريات وتثبيت الاحتفاظ بها على المدى الطويل أو إضعافها ونسيانها بمرور الوقت.

 

لنفترض أنك مررت بتجربة عاطفية مُفرحة أو مؤلمة، وظللت تفكر فيها. بمرور الوقت، ومع استمرار تفكيرك فيها، ستُعزز تلك الذكرى عبر عدة مؤقتات. لكن لنفترض أن شهرًا أو عامًا قد مر على الحدث، ولم تعد تفكر فيه. بما أن كل مؤقت مضبوط على مدة أطول من المؤقت الذي قبله، فقد تصل في النهاية إلى مستوى من الأهمية لا تتجاوز ذلك المؤقت - وهكذا، يمكن دمج الوقت والحدث لاستمرار توطيد وصقل استمرارية الذاكرة بعد اكتساب تجارب جديدة بمرور الوقت.

 

أين يحدث كل هذا؟

 

تنتشر هذه المؤقتات الجزيئية في جميع أنحاء الدماغ، ولا تعمل بمعزل عن بعضها. كان يُعتقد طوال عقود من الزمن أن الذاكرة قصيرة الأمد تتكون في منطقة الحصين، بينما الذاكرة طويلة الأمد ليست محصورة في منطقة بعينها، بل منتشرة في أجزاء مختلفة من القشرة الدماغية (القشرة الخارجية للدماغ)، حيث كل منطقة (أى جزء منها) تحتفظ. بجزء الذاكرة الخاص بها؛ صوت، صورة، لون أو غير ذلك. في سلسلة من الدراسات الحديثة، تعرف فريق البحث (3) على المهاد باعتباره حلقة وصل رئيسة بين هاتين المنطقتين، ما ساعد على تحديد أهمية الذكريات وتوجيهها نحو الاستقرار طويل الأمد. في هذه الدراسة، كان من المثير للدهشة اكتشاف ثلاث مؤقتات منفصلة تعمل في دوائر منفصلة في أنحاء الدماغ، تمتد من الحصين إلى المهاد ثم إلى القشرة الدماغية، لإطالة أمد الذاكرة تدريجيًّا. تسمح هذه العملية بدمج نظام أولي (مؤقت أولي) لاكتساب الذاكرة بسرعة (ولكنها تتلاشى بسرعة)، ولكن في وجود مؤقتات لاحقة لاكتساب بطيء للذاكرة للاحتفاظ بها لمدة أطول.

 

ما هي تداعيات ذلك على الأمراض التي تؤثر سلبًا في الذاكرة؟

 

في كثير من حالات فقدان الذاكرة، مثل مرض الزهايمر، يتضرر الحُصين - حيث يقوم المؤقت الأولي بتكوين وتخزين الذاكرة قصيرة الأمد وتخزينها. والآن، بعد أن عرفنا أن هذا النظام (نظام ثبات الذاكرة في الدماغ هو نظام ينطوي على مجموعة عمليات بيولوجية تقرر بقاء الذاكرة أو تلاشيها. يتكون هذا النظام من مناطق دماغية متعددة، مثل الحصين والقشرة الدماغية ومؤقتات جزيئية، تسهم في ثبات الذاكرة) يتمتع بمتانة وآليات احتياطية مدمجة فيه في وجود عدة مؤقتات في مناطق دماغية متعددة، بحيث لو تعطل أحدها يوجد بديل يقوم بعملها، ما من شأنه أن يجعل الذاكرة أكثر ثباتًا وأقل عرضة للتلاشي، يمكننا أن نتساءل: ماذا لو استطعنا تجاوز المناطق المتضررة بتنشيط جزيئات قادرة على توجيه الذاكرة إلى دوائر عصبية سليمة؟ بعبارة أخرى، أدمغتنا مصممة ومزودة بأليات احتياطية للتعويض - فهل يمكننا الاستفادة من هذا الاحتياط الدماغي لتحسين المرونة الإدراكية لإبقاء الدماغ قويًّا لمواصلة العمل بكفاءة، وبذلك يتحسن ثبات الذاكرة ويساعد على التعلم في مواجهة عوامل المرض والإجهاد والشيخوخة؟

 

في أي اتجاه ستقودنا هذه النتائج؟

 

على مدى عقود طويلة، انصبّ التركيز بشكل كبير على دراسة الحصين لفهم الذاكرة. إذا قرأتَ تقارير المرضى، ستدرك سبب هذا الاهتمام الكبير. فالمرضى الذين يعانون من آفات (lesion) في الحصين لا يستطيعون تكوين ذكريات جديدة. هؤلاء المرضى كانوا يأتون إلى العيادة، ويتحدثون مع الطبيب، ولكن بعد لحظة قصيرة، يسألونه: "من أنت؟". كان دور الحصين في تكوين الذاكرة لافتًا للنظر لدرجة أنه استقطب اهتمامًا واسعًا. لكن في المقابل، لا نعرف إلا القليل جدًّا عما يحدث للذاكرة خارج نطاق الحصين. وهو مجال بدأ فريقي البحثي للتوّ بتحقيق تقدم واعد فيه.

 

من خلال استكشاف جميع مسارات الإخراج في الحصين (المسارات التي ينقل فيها معلومات الذاكرة إلى مناطق أخرى، خاصة القشرة الدماغية للتخزين طويل الأمد والاستخدام والتوطيد بمرور الوقت، بشكل ممنهج، تمكّنا من التعرف على منطقة المهاد، باعتبارها مركز رئيس يُصنّف الذكريات ويوجّهها (يرسلها) إلى مناطق أخرى، مثل القشرة الدماغية، ليحفظها في مستودعات طويلة الأمد. وكيفية قيامه بذلك تنطوي على مجموعة رئيسة من الخطوات التي سنتناولها في دراستنا اللاحقة).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- https://www.nature.com/articles/s41586-025-09774-6

2- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_الذاكرة

3- https://seek.rockefeller.edu/at-the-center-of-it-all/

المصدر الرئيس

https://www.rockefeller.edu/news/38669-your-memories-are-governed-by-hidden-timers-inside-your-brain/

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد