علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

إنتروبيا الجاذبية والشروط الابتدائية الخاصة في لحظة الانفجار الكونيّ العظيم (1)

تأخذ العمليات الطبيعية اتجاهًا محددًا يزيد من درجة الفوضى لديها أو يبقيها كما هي وهذا ما يعرف بالإنتروبي أو بالأحرى التغير في الإنتروبي. فهو (الإنتروبي) مقياس لدرجة الفوضى التي تحدثها جميع العمليات الطبيعية. وهذه الفوضى تأخذ خطًّا متصاعدًا في العمليات غير العكسية، أي تلك التي تمنعها قوانين الطبيعة من أن تعود إلى النقطة التي ابتدأت منها. فما هو المقصود العلمي بالفوضى؟

 

الإنتروبي: المعنى الماكروسكوبي 

 

ولكي نفهم المعنى المقصود من الفوضى علميًّا سوف أضرب عددًا من الأمثلة. لو سقطت كأس زجاجية من على سطح منضدة على الأرض وتحطم وتناثرت أجزاؤه، فيقال في مثل هذه الحالة إن الفوضى قد زادت. ويقصد بذلك أن الكأس قبل سقوطها كانت في وضعية منظمة وبعد سقوطها أصبحت في وضعية مبعثرة. ومثل هذه العملية غير عكسية، فلا يمكن لأجزاء الكأس المتناثرة على الأرض أن تعيد ترتيب نفسها وتتجمع وترتفع عن الأرض لتصنع الكأس على سطح المنضدة تمامًا قبل لحظة سقوطها، فمثل هذه العملية مستحيلة.

 

مثال آخر لو أن لدينا قنينة مسدودة وبداخلها غاز مضغوط بضغط عالي – أكبر من الضغط الجوي الخارجي – ثم قمنا بفتح السدادة فإن الغاز سوف يسارع في الخروج خارج القنينة وسوف يستمر خروج الغاز حتى يتعادل ضغط الغاز المتبقي داخل القنينة مع الضغط الجوي الخارجي المحيط بها. وهذه العملية لا تحدث بالعكس، فجزيئات الغاز لا تجتمع بعد أن انتشرت في الفضاء المحيط وتسارع بالدخول إلى القنينة ذلك أمر مستحيل الحدوث أو احتماله ضعيف للغاية.

 

وهناك الكثير من الأمثلة اليومية على هذا المسار الواحد للعمليات الفيزيائية التي تحدث في حياتنا اليومية. فعندما نرتشف فنجان القهوة الساخن فإننا نعرف أن الحرارة تتدفق من القهوة الساخنة إلى الهواء البارد لكنّنا لا نرى العكس. الحرارة تتدفق دائمًا من الوسط الحار إلى الوسط البارد ويستحيل أن يحدث العكس. الإنسان يمر في حياته بمرحلة الطفولة، والشباب والشيخوخة، ولا سبيل لعكس هذه المراحل العمرية. وكلما تقدم الإنسان في العمر، فخلاياه تضعف وقواه تنهار، وإذا ما أدركه الموت فإن جسمه يمرّ بمزيد من التدهور، فيتحلل وتتناثر جزيئات جسمه في التراب.  فعمر الإنسان والضغف والموت عمليات تأخذ مسارًا واحدًا.

 

إذن توجد عمليات في الطبيعة تتطور في مسار واحد فقط والأمثلة التي ذكرتها تؤكد هذه الحقيقة الكونية. ولكن السؤال لماذا هي – العمليات الطبيعية – تتطور في مسار واحد ولماذا هي مستحيلة الحدوث أو ضعيفة الاحتمال في الاتجاه العكسي؟ سنجيب عن هذا السؤال إذا ما نظرنا نظرة أكثر عمقًا لهذه الفوضى.

 

الإنتروبي: المعنى الميكروسكوبي

 

إذا ما أردنا أن نكوّن فهمًا معمقًا للمعنى الفيزيائي للفوضى والذي على ضوئه وضع العلماء القانون الثاني في الديناميكا الحرارية والذي مضمونه أن درجة الفوضى في الكون في ازدياد. فما الذي يحدث لجملة الأمثلة التي عرضناها حتى يزداد مقدار الفوضى لديها؟ توصف تلك العمليات بأن لها ميلًا عاليًا جدًّا – احتمال كبير – لأن تنتقل من حالة منظمة إلى حالة غير منظمة (فوضى)، واحتمال ضعيف للغاية لأن تنتقل من الفوضى إلى وضع منظم. هذا الاتجاه الواحد لمثل هذه العمليات يعرف بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي ينص على الأنظمة المغلقة لو تركت فإنها تتطور باتجاه إما يزيد الفوضى لديها في العمليات غير العكسية التي تحدث داخل هذه الأنظمة، أو يبقي الفوضى ثابتة في العمليات العكسية التي تحدث بداخلها.

 

من الممكن أن يحدث تدخل خارجي يخرج هذه الأنظمة من حالة الفوضى ويعيد إليها حالة الانتظام والترتيب، لكن ذلك يتطلب استهلاك مقدار من الطاقة يعادل الشغل الخارجي المبذول الذي يتطلبه إعادة النظام لمثل هذه الأنظمة. فلو استخدمنا على سبيل المثال مضخة حرارية كالثلاجة تضخ طاقة حرارية من الهواء البارد إلى فنجان القهوة الساخن. فإننا حينئذ سنعكس مسار الحرارة. إذن من الممكن أن نعكس العمليات ذات المسار الواحد بتدخل خارجي فهل يعني ذلك أن الإنتروبي أو الفوضى قد تناقصت؟ لا بالطبع، ذلك لو أخذنا القهوة الحارة كنظام مستقل وأضفنا إليها الطاقة المبذولة وما تحدثه هذه الطاقة في الهواء المحيط فإننا سنرى أن الفوضى الكلية تزداد ولا تقل.

 

أخيرًا سوف أضرب مثالًا فنيًّا يعيد تعريف الإنتروبي بصورة جديدة مرتبطة بالاحتمالات. هذا المثال اقتبسته لكن بتصرف من العالم الفيزيائي كيب ثورن والذي ورد في كتابه ”الثقوب السوداء وانحناء الزمن”. يقول كيب لو تصورنا غرفة ألعاب مربعة الشكل تحوي عشرين لعبة، وأرضية هذه الغرفة مكونة من 100 بلاطة كبيرة، موزعة بحيث تكون عشر بلاطات في كل صف. فما هي عدد الطرق التي يمكن أن نوزع بها العشرين لعبة على عشر بلاطات في صف واحد من الغرفة؟ كل لعبة يمكن أن تتوزع على عشر بلاطات فإذا كان لدينا عشرين لعبة فإن عدد الطرق يصبح 1020 طريقة يمكن أن نوزع بها هذه الألعاب على الصف الواحد المكون من عشر بلاطات. وهذا العدد كبير وهو يعطي وصفيًّا حجم العشوائية – الفوضى- في توزيع الألعاب.

 

وبما أن هذا العدد كبير فسوف نستخدم مقياسًا رياضيًّا آخر يعطي أرقامًا صغيرة. فإذا استخدمنا اللوغارتيمات (الذي قاعدته عشرية) للتعامل مع هذه الأرقام الكبيرة. فيمكن بدل أن يكون لدينا  1020 سنحصل على رقم 20 إذا استخدمنا اللوغارتيم ذا القاعدة العشرية ونكون بذلك قد حددنا الفوضى في مثل هذه الحالة بالرقم 20. والآن لنفترض أن طفلًا دخل هذه الغرفة ولعب في مثل هذه الألعاب ووزعها بشكل عشوائي على كامل أرضية الغرفة يعني تركها في وضعية من الفوضى. فما هو حجم الفوضى الآن؟

 

لدينا عشرون لعبة توزعت عشوائيًّا على 100 بلاطة، فإن عدد الطرق التي يمكن أن تتوزع فيها عشرون لعبة على 100 بلاطة يكون 10020 وإذا ما استخدمنا اللوغارتيم لهذا العدد يكون حجم الفوضى مساويا 40. هذا يعني أن الفوضى قد زادت من 20 إلى 40. وإذا قمنا بإعادة الألعاب الى ترتيبها السابق فسوف تنخفض الإنتروبي – الفوضى – إلى 20 ولكن في مقابل هذا سوف تزداد الإنتروبي – الفوضى – لجزيئات الهواء الموجودة في الغرفة بحيث تفوق الـ 40. مما يعني أن القانون الثاني للديناميكا الحرارية لا يمكن مناقضته. فعلى ضوء ما تقدم يمكن أن نعرف الإنتروبي بأنها عدد الطرق المحتملة لتوزيع نظام ما، فكلما زاد عدد هذه الطرق زادت الإنتروبي. فجزيئات الغاز كما في المثال السابق بعد أن تحررت من القنينة توزعت على عدد كبير من مستويات الطاقة وبالتالي فإن عدد الطرق التي يمكن أن تتوزع بها ستكون كبيرة جدًّا مما يؤدي الى حالة من الفوضى العالية.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد