وقفات تأمّلية مع نقد مصطفى زيد لابن بحر المعتزلي
وقد أسهب بعضُ العلماء المعاصرين ـ وهو الدكتور مصطفى زيد ـ في نقد تفسير أبي مسلم الأصفهاني المعتزلي هنا، فقال بأنّ الآيات التي سبقت هذه الآية مباشرةً، فيها حديثٌ عن القرآن الكريم، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل: 98 ـ 100)، وبعد الآية محلّ الشاهد وقع الكلام عن القرآن الكريم وحقّانيّة وحيه من الله سبحانه، وما بين هذين الأمرين استخدام الآية تعبير «إذا» وهو في القرآن يقع غالباً على أمرٍ تحقّق من قبل أو على أمرٍ يغلب وقوعه، أو سيقع حتماً، فيكون معنى «إذا» هنا هو: حين ننسخ آية بآية يقولون كذا وكذا.. افتراءً على الوحي الحقّ؛ لأنّ الشيطان مسلّط عليهم كما يفيده سياق الآية السابق عليها، فإذا ضممنا إلى هذا السياق كلّه أنّ الآية مكيّة، لم يعد من المعقول أن يكون إشكال المشركين من قريش مركّزاً على نسخ حكمٍ في شريعةٍ سابقة.
فهذا الإشكال بطبعه أديانيّ يمكن فهمه من قبل أهل الكتاب، لا من قبل مشركي العرب، وبهذا يترجّح أن يكون معنى كلمتَي: “الآية” في الآية التي نحن بصددها هو الآية القرآنيّة المنسوخة بمثلها. ويتعزّز هذا الأمر بأنّ الأصفهاني ربط الموضوع بتحويل القبلة في حين ظاهرة تحويل القبلة وقعت بعد الهجرة بقرابة سنة ونصف أو أقلّ بقليل، ويزداد الأمر ضعفاً عندما نراجع الكتب التاريخيّة والنزوليّة والتفسيريّة القديمة فلا نجد أحداً يشير إلى نزول هذه الآية في سياق الحديث عن تحويل القبلة، وحتى لو تجاهلنا هذا الأمر برمّته.
فإنّ معنى «قالوا» في الآية محلّ الشاهد سوف يكون: قالت اليهود؛ لأنّ اليهود هم المعنيّون بالموضوع، في حين عندما نرى الآية السابقة على الآية محلّ الشاهد نجدها تعبّر بالمشركين، الأمر الذي يضع نوعاً من المنافرة في تركيبة الآية وإيحاءاتها، كما أنّ تهمة أخذ محمّد من علماء الأديان الأخرى هي تهمة معروفٌ في التاريخ نسبتُها لقريش والمشركين دون أهل الكتاب الذين يعرفون صدق محمّد حقّ المعرفة كما قال القرآن نفسه، هذا كلّه إلى جانب عدم تقديم الإصفهاني أيّ دليل على صحّة ادّعائه بأنّ الآية الأولى هي آية كتاب مقدّسٍ آخر بينما الآية الثانية هي آية قرآنيّة [1].
ولنتوقّف قليلاً مع محاولة مصطفى زيد، ببعض المداخلات:
أ ـ إنّ سياق الآيات السابق واللاحق في تركيزه على حقّانية القرآن الكريم لا ينفع شيئاً هنا في مواجهة تفسير أبي مسلم الأصفهاني؛ لأنّ المفروض أنّ تفسيره هو الآخر يقع في سياق تأكيد كون القرآن حقّاً ووحياً من الله سبحانه، فعندما يقوم القرآن بنسخ حكمٍ في شريعةٍ سابقة، فهو يحتاج لإثبات نفسه بوصفه من الله كي يقوم بذلك، فالآيات السابقة واللاحقة تؤكّد هذا الأمر، وتخلق بيئة حاضنة لشرعيّة ممارسة القرآن عمليّة نسخ آيةٍ من كتابٍ دينيّ سماوي سابق.
ب ـ قد سبق أن تحدّثنا عن موضوع مكيّة الآية المستدلّ بها هنا، ومن ثمّ فكلّ ما بنى عليه الدكتور زيد غير دقيق.
ج ـ إنّ عدم إشارة الكتب التفسيريّة والنزوليّة لسبب نزول هذه الآية في المدينة لا يضرّ؛ فلنفرض أنّها لم تنزل في موضوع تحويل القبلة، فهذا لا يغيّر من فكرة الأصفهاني شيئاً، وكأنّ الدكتور زيد تشبّث بفكرة تحويل القبلة ليحاسب الأصفهاني عليها، والحقّ معه، فإنّ الإصفهاني لا يملك ـ فيما يبدو ـ دليلاً على ربط نزول هذه الآية بتحويل القبلة، لكنّ هذا لا يعني أنّ عدم إشارة الكتب لسبب نزول هذه الآية يفيد أن لا علاقة لها بأهل الكتاب، فالكتب لم تُشر أيضاً لسبب النزول في قريش وأهل مكّة إلا إشارة عابرة متأخّرة سبق أن توقّفنا معها.
د ـ إنّ وقوع «إذا» في سياق تحقّق أمر ولو مستقبلاً بحسب الاستخدامات القرآنيّة، لا يربك تفسير الأصفهاني أصلاً؛ لأنّ الأصفهاني ليست مشكلته ـ كما انتبه زيد في موضعٍ آخر ـ مع كلمة «إذا»، بل مشكلته مع دلالة كلمة «آية» في الآية المستدلّ بها هنا، فلا جديد تقدّمه لنا هذه القرينة.
هـ ـ إنّ عدم تقديم الأصفهاني دليلاً على تفسيره لا يعني بطلان تفسيره؛ لأنّه يخلق فرضيّة تفسيريّة معقولة. وخلقُ فرضية من هذا النوع كافٍ لوحده في إرباك استدلال المشهور هنا، فنحن لا نريد فقط إبطال تفسير الأصفهاني، بل أيضاً تأكيد تفسير المشهور. ومجرّد عدم وجود دليل للأصفهاني يبطل فرضيّته بما هي واقع، لكنّه لا يبطلها بوصفها فرضيّة معقولة.
من هنا، فلعلّ أفضل القرائن التي قدّمها الدكتور مصطفى زيد هو: تعبير المشركين في الآية السابقة، ومعهوديّة تهمة الأخذ من الآخرين من قبل المشركين، ولا أدري هل تكفي مثل هاتين القرينتين في البتّ في انعقاد ظهور قرآني في هذه الآية يثبت النسخ وقوعاً في القرآن الكريم؟! وربما لو أضفنا إليها أنّ إطلاق كلمة الآية على نصّ غير قرآني، معدوم أو نادر جدّاً في الأدبيّات الإسلاميّة لعزّز ذلك من إضعاف تفسير ابن بحر المعتزلي وقوّى رأيَ المشهور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: النسخ في القرآن الكريم: 231 ـ 235، 237 ـ 241.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي رضا بناهيان
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
عبدالله طاهر المعيبد
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
سورة الناس
إسلام الراهب بُرَيْهَة على يد الإمام الكاظم (ع)
النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (3)
هل نحتاج أن نقرأ لنتعلّم أم يكفي الاستماع؟ ماذا يقول علم الأعصاب؟
اختتام النّسخة العاشرة من حملة التّبرّع بالدّم (دمك حياة)
الإمام الكاظم (ع) في مواجهة الحكّام العبّاسيّين
السّيّدة رقيّة: اليتيمة الشّهيدة
وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ
إيثار رضا الله
النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (2)