قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ..} لا تدلُّ على تزكية أحد (1)

المسألة:

 

قوله تعالى من سورة التوبة:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1) أليس في الآية دلالة على تزكية فلانٍ وفلان لكونهما من السابقين الأولين.

 

الجواب:

 

مفاد الآية المباركة أنَّ السابقين إلى الإيمان من المهاجرين والأنصار وكذلك الذين اتَّبعوهم بإحسان هؤلاء جميعاً قد رضيَ اللهُ عنهم ورضوا عنه، فالآية لا تزكِّي أحداً بعينه وإنَّما تُخبر عن أنَّ الله تعالى قد رضيَ عمَّن سبق إلى الإيمان من المهاجرين والأنصار، والإيمان أمرٌ قلبي لا يعلمه من أحدٍ، فليس في وسع أحدٍ أنْ يُشير إلى شخصٍ بعينه فيقول إنَّ هذا قد سبَق إلى الإيمان الحقيقي فهو إذن مشمولٌ لمدح الآية، فقد يكون سبَق إلى الإعلان عن إسلامه لكنَّه لم يكن صادقاً في دعواه، إذ من الممكن أنَّ باعثه على الإعلان عن إسلامه هو النفاق.

 

إذن فالآيةُ ليس فيها دلالة على تزكية أحدٍ بعينه، فهي متصدِّية لبيان أنَّ الله تعالى قد رضيَ عمَّن سبق للإيمان، وأمَّا من هم الذين سبقوا للإيمان فذلك ما لا يسعنا إحرازه لأحدٍ من الآية، فقد يكون باعث بعض من سبَق إلى الإسلام هو النفاق، وبذلك لا يكون قد سبق إلى الإيمان وإنْ كان قد سبق إلى الإسلام.

 

وبتعبير آخر: إنَّ الآية لم تقل أنَّ كلَّ المهاجرين والأنصار قد رضيَ الله عنهم وإنَّما قالت السابقين إلى الإيمان من المهاجرين والأنصار قد رضيَ الله عنهم، أما مَن هم الذين سبقوا إلى الإيمان فذلك ما لا يُعرف من الآية كما لا يمكن معرفته من طريق الوقوف على من سبق للإسلام، لأنَّ السبق للإسلام لا يكشف عن السبق للإيمان، فقد يكون بعض مَن سبق للإسلام منافقاً. لذلك لا يُمكن الاستدلال بالآية على تزكية أحدٍ لمجرَّد أنَّه كان من السابقين للإسلام . لأنَّ السبق للإسلام لا يساوق السبق للإيمان.

 

إذا كان المراد السابقين إلى الهجرة والنصرة:

 

ولو قيل إنَّ المراد من السابقين الأولين هم السابقون إلى الهجرة والنصرة، فكذلك لا تدلُّ الآية على تزكية أحدٍ بعينه ممَّن سبق إلى الهجرة والنصرة ما لم يثبت أنَّه فعل ذلك إخلاصاً لله تعالى، فالسبق إلى الهجرة والنصرة لا يكشف بنفسه عن الإخلاص لله تعالى، فقد يسبق أحدٌ إلى الهجرة والنصرة وباعثه على ذلك النفاق أو غير ذلك من الغايات غير القربيَّة، وكلُّ آية تصدَّت لمدح القائمين بطاعةٍ من الطاعات فإنَّها متضمِّنة يقيناً لشرط الإخلاص لله تعالى، إذ أنَّ الطاعات لا تكون مقبولةً ومرضيَّةً لله جلَّ وعلا ما لم يكن باعثُها الإخلاصَ لله تعالى كما قال جلَّ وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(2)

 

ولهذا فكلُّ آيةٍ تضمنت الوعد بالجنَّة أو امتدحت قوماً على قيامهم بطاعةٍ من الطاعات فهي مشروطة ضمناً بالإخلاص لله تعالى، وعليه، فلا يمكن تزكية أحدٍ لمجرَّد أنَّه مارس هذه الطاعة ما لم يُحرَز أنَّه مارسها عن إخلاص لله تعالى، فمثلاً قوله تعالى:{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ / أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3) فلا يمكن أن نقول استناداً إلى هذه الآية أنَّ كلَّ من كانوا مع الرسول (ص) وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم أنَّهم مفلحون وأنهم سيدخلون الجنَّة، ويحظون بالفوز العظيم، إذ من البديهي الذي لا يختلف عليه مسلم أنَّ مجرَّد فعل الطاعة لا يكون سبباً للنجاة والفوز بالجنَّة ما لم ينشأ ذلك عن إخلاصٍ لله تعالى، لذلك لا يُمكن تزكيةُ أحدٍ ممَّن كان مع الرسول (ص) وجاهد معه ما لم يُحرز من طريقٍ آخر أنَّه كان مُخلصاً. فكثيرٌ ممن كان مع الرسول (ص) وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم كانوا منافقين، فهؤلاء لا يشملُهم الوعدُ بالنجاة والفوزُ بالجنَّة رغم أنّهم شاركوا في الجهاد.

 

كذلك هو الشأن في السابقين الأولين فإنَّه ليس كلُّ مَن سبَق إلى الهجرة والنصرة مشمولاً لقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فإنَّ الله تعالى لا يرضى عن المنافقين أو مَن كانت هجرته لغير الله جلَّ وعلا، ولهذا لا يمكن تزكية أحدٍ لمجرَّد أنَّه سبق إلى الهجرة لاحتمال أنَّه فعل ذلك رياءً وسمعة أو نفاقاً أو لغير ذلك من الغايات الدنيوية، ولهذا ورد عن الرسول الكريم (ص)- كما في صحيح البخاري وغيره- أنَّه قال:" إنَّما الاعمال بالنيَّة وإنَّما لامرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسولِه فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها أو امرأةٍ يتزوَّجُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه"(4)

 

القرآن والسنة يؤكِّدان أن الهجرة والجهاد منوط قبولهما بالإخلاص:

 

فمفاد الرواية أنَّه ليس كلُّ من هاجر فهجرتُه إلى الله تعالى ورسوله (ص) فثمة مَن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها ومثله لا تكون هجرتُه مرضيةً لله تعالى، فالطاعة الخارجية منوطٌ قبولها بالنية فمَن هاجر وكانت نيته لله تعالى فهجرتُه مرضية ومقبولة ومن كانت نيتُه لدنيا يُصيبُها فإنَّه لا يحظى بالقبول والرضا من الله تعالى، فمناط القبول وعدمه هو النية وهذا هو مفاد الحصر في قوله : "إنَّما الاعمال بالنيَّة" و"وإنَّما لامرئٍ ما نوى" ومن الواضح أنَّ النيَّة من شؤون القلب، ولهذا لا يسعنا أنْ نشير إلى أحدٍ بالتزكية لمجرَّد أنَّه سبَق إلى الهجرة، فلعلَّ نيته من هجرتِه دنيا يُصيبها أو امرأةٌ يتزوجها أو غير ذلك من القصود غير القربيَّة.

 

ولهذا نجد القرآن المجيد يؤكِّد على أنَّ الوعد بالأجر والمغفرة والنجاة يوم القيامة إنَّما هو لمَن هاجر وجاهد لله تعالى وفي سبيل الله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(5) فالذين سيحظون بالأجر الأكبر في الآخرة هم الذين هاجروا في الله، ومن أجل الله تعالى، وليس لكلِّ مَن هاجر حتى لو كانت هجرتُه لغير الله جلَّ وعلا.

 

وقال تعالى:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(6) فالفائزون بحسب الآية المباركة هم الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، ومن أجل الله تعالى، وليس في سبيل التحصيل لمكاسب دنيوية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(7) فالموعودون في الآية برحمة الله تعالى وغفرانه هم الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وليس غيره من السُبل، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(8) وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(9)

 

فهذه الآيات وغيرها إنَّما تمتدح المهاجرين والمجاهدين الذين تتمحَّض غايتهم من الهجرة والجهاد في الإخلاص لله تعالى، فمجرَّد الهجرة والنصرة لا تُصححان التزكية وليستا، مورداً للمدح والثناء، ولا مورداً للنجاة وحسن العاقبة في الآخرة ما لم يكن القصد منهما الإخلاص لله تعالى، فطبيعة القصد والنيَّة هي مناط التزكية وعدمها، وهي مناط المدح وعدمه، وهي مناط الفوز وعدمه. ومن المعلوم أنَّ القصد والنية من شؤون القلب التي لا يعلم بها إلا علَّام الغيوب، ولهذا لا يصحُّ الإشارة بالتزكية لأحدٍ بعينه لمجرَّد أنه كان فيمَن سبَق للهجرة والنصرة كما لا يصحُّ أن يقال إنَّ هذا من أهل الجنَّة وذاك من أهل الجنَّة لمجَّرد أنَّ الله تعالى وعد مَن سبق إلى الهجرة والنصرة بالجنَّة وأخبر بأنَّه قد رضي عنهم، لأنَّ الله إنَّما وعد المخلصين منهم، وهذا ما لا يمكن الوقوف عليه إلا من إخبار الله تعالى ورسوله (ص) أنَّ هذا بعينه زكيٌّ، وأنَّه تعالى قد رضيَ عنه، وأنَّه من أهل الجنَّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة التوبة: 100.

2- سورة البينة:5.

3-سورة التوبة: 88، 89.

4-  صحيح البخاري- البخاري- ج7/ 231،ج8/ 59.

5-سورة النحل: 41.

6- التوبة: 20

7- سورة البقرة: 218.

8- سورة الحج: 58.

9- سورة الأنفال: 54.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد