من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الرضا (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون

...... لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة منها في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمام (عليه السلام) نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟ وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!..

 

الحقيقة هي: أن الإمام (عليه السلام) قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحًا في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

 

المأمون في قفص الاتهام:

 

وهكذا.. وبعد أن اتضحت الاسباب الحقيقية للبيعة، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات، التي أحاطت بهذا الحدث الهام، فإننا نستطيع أن نضع المأمون، ونواياه، وأهدافه، في قفص الاتهام، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبدًا، أي ادّعاء سطحي، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة، وسلامة طويته، ولا سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضا (عليه السلام) من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر، وحتى إلى ما بعد وفاته....

 

والأدهى من ذلك كله رسالته للسري، عامله على مصر، التي «يخبره فيها بوفاة الرضا، ويأمره بأن تغسل المنابر، التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت..» [1].

 

وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين، الآخرين.. كما في رسالته لعبد الله بن موسى، التي يذكر فيها: أنه راح يختلهم واحدًا فواحدًا.. وأيضًا عندما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه، بعد وفاة الرضا، ويأخذهم بلبس السواد [2].. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم، والقضاء عليهم..

 

مع المأمون في وثيقة العهد:

 

ويحسن بنا هنا: أن نقف قليلاً مع وثيقة العهد، التي كتبها المأمون للامام (عليه السلام) بخط يده؛ فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة.... فلسوف نقتصر هنا على:

 

أولاً: إننا نلاحظ: أنه يؤكد كثيرًا على نقطتين: الأولى: أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله، وإيثاره لمرضاته، الثانية: أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الأمة، والخير لها..

 

وسر ذلك واضح: فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس؛ الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب، ولمن يعتبر زعيمًا لأخطر المنافسين للعباسيين.. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به، وبنظام حكمه.

 

وعدا عن ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته، ومصلحة الأمة، والصالح العام..

 

وثانيًا: نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة؛ وذلك لكي يضمن لأهل بيته حقًّا في الخلافة كآل علي.

 

وثالثًا: يلاحظ: أنه يعطي خلافته صفة الشرعية؛ حيث يربطها بالمصدر الأعلى (الله)، وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح؛ لأنهم بمجرد أن يعمل أحد عملاً يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة، ويصير مقبولاً لدى الناس.. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده..

 

وهو أيضًا تام وصحيح حسب منطق العباسيين، الذين يدعون الخلافة بالإرث عن طريق العباس بن عبد المطلب....

 

ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب!! مع أن عبد الله تلميذ علي.. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة، وجعل حق له بالخلافة، بل وجعل نفسه الأحق بها.. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي، وصل إليه بالطريق الشرعي، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة، أو على حسب منطق العباسيين..

 

وفي هذا إرضاء للعباسيين، وتطمين لهم، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس، الذين كانوا غالبًا ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر؛ حيث أثبت لهم: أنه لا يزال على مذهبه، وعلى نفس الخط الذي هم عليه..

 

ورابعًا: إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه، ووجهة نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفًا ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي: أنه إنما يجعل الخلافة للرضا (عليه السلام)، لا من جهة أنها حق له، ولا من جهة النص عليه، حسبما يدعيه الرضا، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه.. وهذا أمر طبيعي جدًّا، وليس إقرارا بمقالة الرضا.. وكما ينطبق الآن على الرضا، يمكن أن ينطبق غدًا على غيره، عند ما يوجد من له فضل، وأهلية.. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة، ومن النص، وغير ذلك..  

 

وإننا مهما شككنا في شيء، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة، قبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات، ومختلف النتائج، سواء مما قدمناه، أو من غيره، مما أخفته عنا الأيدي الأثيمة، والأهواء الرخيصة.. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها، التي كان يرجوها منها؛ وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمام (عليه السلام) قد اتبعها.

 

ولعمري: «.. إن بيعته للإمام لم تكن بيعة محاباة؛ إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه، وسائر ولده، أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه..». على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] الولاة والقضاة للكندي ص 170.

 [2] الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 204.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد