مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

مراحل التعلّم من اللاوعي إلى الإنتاج

يبدأ الإنسان بالتعلُّم أو الاكتشاف منذ اللحظات الأولى التي يفتح عينيه فيها على هذا العالم؛ بل إنّ اكتشافه وتعلّمه وإدراكه في هذه المرحلة العمرية الأولى قد يفوق، من حيث الكم، ما يتعلّمه في أي مرحلة أخرى بأضعاف؛ إلا أنّ تعلّمه هذا يتم في حالة من اللاوعي. بمعنًى آخر، ما يتعلّمه ويكتشفه من أصوات وألوان وأشياء وأشكال ومعانٍ يحصل بطريقة لا يلتفت معها إلى أنه يتعلّم، لأنه لا يُجري تلك الحسابات المتعلقة بالمعلومات وقيمتها ودورها في حياته. فالتعلُّم الواعي هو الذي يقوم المتعلم فيه بالتفكُّر والتأمُّل والحكم على تعلُّمه ومعلوماته والتعبير عنها.

 

وبعد ذلك إذا سنحت الفرصة لهذا الإنسان لأن يتعرّف إلى أشياء جديدة أو أن يواجه ويقابل الكثير من القضايا والمسائل والأمور، وذلك بما قد توفره له الحياة والتربية من مجالات وإمكانات وحتى عوالم وآفاق؛ فمن المتوقَّع أن يصبح أسرع تعلّمًا من غيره ويكون الحاصل تفوّقه على من لم تسنح له مثل هذه الفرصة. وهنا يبدأ التمايز بشكل واضح بين المتعلمين (ولهذا التمايز التأثير الأكبر على كل ما يجري في العالم وفي العلاقات بين المتعلمين ومن يمتلك المعلومات)، حيث يصبح هذا المتعلّم متميزًا عمّن سواه في المدركات والمهارات والعلم والسبق. كل ذلك بفضل تعامله وتفاعله مع عددٍ أكبر وأوسع من الأشياء والأمور والقضايا والإمكانات.

 

من هنا، إذا أردنا للعملية التعليمية أن تسير بوتيرة سريعة (وهذا هو جوهر التعليم اليوم) ما علينا سوى أن نُتيح للطفل أكبر قدرٍ ممكن من الأشياء والقضايا والفرص والإمكانات التي يتعامل معها ويواجهها وينخرط فيها ويتفاعل معها. القضية كلها تكمن في السرعة والسبق، لأنّ السرعة ستكون في المستقبل عاملًا حاسمًا حين يُراد للإنسان أن ينخرط في الحياة أو العمل. ولأنّ العمر المحدَّد عالميًّا لهذا الانخراط يدور بين سن الثانية والعشرين والسادسة والعشرين، فإن الذي يسبق إلى هذا العمر يتفوق ويحصل على فرص أكبر.

 

أما لو فرضنا أنّه قد توافرت لهذا الإنسان الفرصة التي لا يضطر معها إلى العمل أو تأمين الحياة والاستقرار الوظيفي، فإنّه قد لا يحتاج إلى هذه السرعة المفروضة. ففي عالمنا اليوم، يفرض التسارع نفسه نتيجة تزايد التوقُّعات والضغوط؛ لذا كلما تسارعت وتيرة التعلّم، ازدادت فعاليته وتمكّن المجتمع من امتلاك طاقات وقدرات أكبر.

 

فإذا كان متوسط سن الدخول في دورة الإنتاج لمجتمعٍ ما هو الثلاثين، فإنّ إنتاجية هذا المجتمع ستكون أدنى بكثير مقارنةً بمجتمعٍ يبدأ أفراده بالإنتاج في سن العشرين أو ما دون ذلك. فكلما تأخر سن الإنتاج، قلّ عدد القوى العاملة الفاعلة وكانت استفادة المجتمع منها بدرجة أقل. في حين لو بدأ سن الإنتاج في عمر الخامسة عشرة، فإنّ ذلك سيمنح المجتمع طاقة إنتاجية أكبر وقدرة أعلى على الاستفادة من موارده البشرية. ويزداد هذا الأثر وضوحًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الفئة العمرية بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة غالبًا ما تشهد اضطرابات سلوكية ونفسية قد تؤثر سلبًا في الناتج العام وتؤدي إلى هدر جزء من موارد المجتمع، ما يجعل إدماج هذه الفئة في دورة العمل بشكل منتج أحد سبل توجيه تلك الطاقة توجيهًا إيجابيًّا.

 

لذلك، فالقضية كلّها تكمن في الإسراع، وعند المقارنة بين المجتمعات تكون في السبق أيضًا. فإذا استطعنا أن نوفر أكبر قدر ممكن من الفرص اللازمة للأطفال لكي ينخرطوا في قضايا الحياة ومواردها وإمكانات هذه الأرض بل هذا الكون وما فوقه، فهذا يعني أن هذه الطاقات الفطرية للتعلم ستكون أسرع إنتاجًا وسيكون المجتمع أكثر قدرة في مجال التنافس والصراع الدولي. بهذه الطريقة سيُتاح للمتعلم أن يسبق في مجال تحصيل المعاني والأفكار والمهارات وقدرات البيان والتواصل والتعبير والتأثير والقدرات الرياضية والتحليلية الفلسفية وغيرها.

 

لذلك، سنحتاج في المرحلة الأولى إلى العمل على توفير أكبر قدر ممكن من هذه الإمكانات وجعلها متاحة للطفل عبر اللعب، بهدف خلق بيئة تفاعلية إيجابية لا تضغط على روح الطفل فتؤدي إلى تشويه علاقته بالتعلم ونفوره منه، كما يحصل في نظام التعليم التقليدي في مدارس اليوم. مثل هذه المقاربة تجعل المتعلم أكثر انخراطًا في عملية الاكتشاف والاكتساب.

 

اللعب هو الوسيلة الأساسية التي يعتمدها الأطفال للتفاعل مع العالم الخارجي، ومن خلاله يبلغون حالة من المرح والفرح ويستمتعون بالأشياء عبر تسخيرها. فكلما أدركوا أن هذا العالم مُسخَّر لهم، أقبلوا على اكتشافه من دون وعيٍ مباشر منهم لذلك. وهكذا تصبح عملية الاكتشاف سلسلة، ويغدو التعلُّم نتيجة تلقائية غير مقصود بذاته. وهذا هو جوهر اللعب. ولهذا، فإنّ هذه المرحلة تتطلّب توفير كل ما ينسجم مع هذا الدافع الغريزي، والاستفادة القصوى من طاقته الكامنة في توجيه الطفل نحو التعلّم.

 

لذلك، ينبغي لنا في هذه المرحلة أن نعمل على استثمار هذه الرغبة الفطرية القوية لدى الأطفال في محاكاة الواقع، باعتماد التعلّم عبر اللعب، حيث يتمّ التفاعل مع قضايا الحياة بأسلوب تمثيلي، وكلما استطعنا أن نوفر للطفل بيئات تحاكي الواقع الخارجي ـــ كبيئة المدرسة أو المشفى أو المطبعة أو إنتاج الأفلام أو المطار والمرفأ أو السوق أو بيئة المصنع وغيرها من البيئات الموجودة في عالمنا ــ نكون قد وفّرنا له المزيد من الفرص لتسريع عملية التعلُّم والاكتشاف والاكتساب.

 

وحين تتفتّح هذه الطاقات والمهارات التعلّمية وتقوى ــ وعلى رأسها مهارات البيان من خلال إجادة المطالعة والكتابة، يسبقها الحوار التفاعلي عبر توسعة رصيد المفردات، إلى جانب تنمية الذهن الرياضي التحليلي والفلسفي ــ يصبح الطفل أكثر قدرة على التفاعل مع المزيد من الآيات الآفاقية والأنفسية، التي تتجلّى في صور مكتوبة أو شبه مكتوبة، والتي هي في جوهرها نتاجات أهل العلم والمعرفة. فهذه النتاجات تمثّل اكتشافاتٍ تتعلّق بأسرار الوجود وقوانينه وقواعده، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفاهيم النجاح والفشل، والتسخير والاستخدام، والانتفاع وأمثالها.

 

هنا ننتقل إلى المرحلة الثانية، التي ينبغي أن تُبنى على قاعدة تعزيز حب الاكتشاف، حيث يتحوّل التعلّم إلى متعة حقيقية، ويغدو العلم في نظر الطفل أجمل ما في الوجود. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من تقوية هذه الرغبة العميقة في التعلم والاكتشاف، لا سيما من خلال التعرّف إلى أهل العلم، والسعي لاكتشاف قوانين العالم وفهم ظواهره. وتعتمد هذه العملية بشكل أساسي على إدراك فائدة هذه الاكتشافات؛ فكلما استطعنا أن نُظهر الصلة الوثيقة بين المعرفة والفائدة العملية، كنا أقدر على ترسيخ حب العلم وتعميق دافع الاكتشاف لدى الطفل، ليغدو العلم بالنسبة له مسارًا حيًّا مليئًا بالمعنى، لا مجرد مادة للتلقين. ولأجل تحقيق ذلك نحتاج إلى أمرين:

 

1.     ربط هذه الحقائق والمعارف بحياة الطفل المتعلّم في هذه المرحلة 

2.     وربطها أيضًا بحياته المستقبلية أو حياة من حوله. كما إذا كان في بيئة أسرية ويعمل أفرادها أو معيلها في مجال معين، ويكون هو مدركًا لفائدة وجود هذا المعيل وأثر الإعالة على حياته، فإننا بذلك نكون قد ربطنا بين العلم والتعلم وهذه الإعالة، حيث يمكنه أن يتصور ما سيكون عليه وضعه في المستقبل؛ رغم أن ربط تفكير هذا المتعلم بالمستقبل هو نوع من التجريد.

 

إذًا، الفوائد تنقسم إلى قسمين: 

1.     فوائد عاجلة 

2.     وفوائد آجلة

 

وكلما تعمّق إدراك الطفل للعلاقة بين الفوائد والتعلُّم والاكتشاف، تعزّز حبّه للعلم وتفعّل هذا الحبّ الفطري الكامن فيه، والذي لا يحتاج إلى تلقين أو اكتساب. فإذا ترسّخت هذه الحالة في نفسه، نشأ لديه ميلٌ طبيعي نحو كل ما يرتبط بالعلم، من علماء وكتب وأدوات وأساليب معرفة.

 

ليدرك في المرحلة الثالثة الحاجة الماسة إلى اكتساب مهارات الاكتشاف وحُسن إدارة هذه العملية إذا ما أراد تسريعها وتوسيع نطاقها وتعميقها. وهنا سوف يحتاج إلى معرفة كيفية حصول العلم والاكتشاف والاستفادة من جميع مصادر المعرفة، وكيف يتفاعل مع هذا العالم بصورة واعية. وهو ما يتطلب تقوية حس المسؤولية اتجاه التعلم وآثاره المصيرية، حيث ينتقل بهذا الإدراك والحب إلى مرحلة ربطه بمصيره في الدنيا والآخرة.

 

وهذا ما يهيئه للانتقال إلى المرحلة الرابعة التي هي مرحلة مفصلية في مسيرة التعلم، والتي نعبر عنها بالتعلّم الذاتي. فالشعور بالمسؤولية العميقة تجاه التعلم شرط أساسي للانتقال إلى هذه المرحلة، حيث يصبح لزامًا على المتعلّم أن ينظّم عملية التعلّم بنفسه ويُحسن إدارتها، مع العمل على ترسيخ مهارات الاكتشاف المسؤول والهادف، ليغدو هو الممسك بدفّة هذه السفينة التي يفترض أن تبحر بثبات في عالم العلوم اللامتناهية، بما يضمن له ديمومة المسارعة والسبق والتميّز.

 

لينتقل بعدها إلى المرحلة الخامسة حيث يحلّل ويدرس بطريقة فلسفية جميع المناهج الموصلة إلى المعرفة وكشف الواقع الكبير، ويقارن بينها ويتعرّف إلى فوائدها ونواقصها وارتباطها بالحياة وبأوضاع وأحوال المجتمعات ومصيرها وقضية اختلاف الحضارات وصراعاتها، ويربط ذلك أيضا بتاريخ البشرية وإنجازاتها وأحوالها، ليكون بذلك مؤهلًا لاختيار المنهج التخصصي المطلوب في المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الإنتاج العلمي الذي يقدّم فيه هذا المتعلّم للبشرية اكتشافات جديدة ويصبح مساهمًا أساسيًا في التقدُّم العلمي للمجتمع .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد