لئن كان قلق المعرفة هو قلق التساؤل فإنه عند فيلسوف العلم الحديث كارل بوبر لهو قلق مضاعف. ذلك لإنه قلق العالم والفيلسوف في ذات الوقت. ولرفع هذا القلق المعرفي استخدم كارل بوبر المنهجية العقلية النقدية في مواجهة المسائل المتعلقة بفلسفة العلوم. لقد برهن كارل بوبر على أن هذه المنهجية ذات التوجه النقدي لهي منهجية متعالية على المذاهب والتيارات الفلسفية وعلى المقولات التي شكلت على مدى سنوات عقائد دوغمائية لا يمكن التفكير خارج سياقاتها. وبهذه المنهجية المتعالية التي سوف تكشف عنها هذه الورقة يتعالى هو نفسه عن التصنيف ضمن مذهب أو تيار فلسفي معين. هو رجل مارس نشاطه الفلسفي بشكل حرّ خارج نطاق السياقات الدغمائية والأنساق الفكرية التقليدية ومن هنا جاء نتاجه الفكري ثورة في حقل المعرفة البشرية. إنها ثورة قطعت مع المورث التقليدي للفكر وشيدت رؤية متكاملة للمعرفة. وهي أيضا ثورة لأنها أزاحت المركزية الذاتية من المعرفة وأحلت مركزية الموضوع. لقد أعطى بوبر اهتمامًا كبيًرا للتفريق بين المعرفة الذاتية والمعرفة الموضوعية كما يتجلى ذلك عند مناقشته للنظرية الكمية في الفيزياء.
لكننا لن نبدأ بالتعرف على مشروعه المعرفي في أبعاده الكبرى إلا بعد أن نستعرض الحادثة التاريخية في ميدان العلم الحديث والتي أدت إلى الزج بمعارف الفيزياء الحديثة في تجاذبات فلسفية متناقضة وهي بذلك شكلت بدايات القلق المعرفي الحديث. هذه الحادثة التي يرويها كارل بوبر(1) تعود إلى بدايات القرن السابع عشر الميلادي عندما وقف العالم الرياضي والفلكي جاليلو أمام المحكمة الكنسية الكاثوليكية متهمًا بالهرطقة وذلك لتبنيه نظرية كوبرنيكس في أن الشمس تقع في مركز نظامنا الشمسي وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
جاليلو جاليلي كان عالـمًا في الرياضيات والفلك وهو يعد أبو الفيزياء الحديثة لأنه تفطن إلى حقيقة مدهشة وهي المطابقة بين الرياضيات والظواهر الطبيعية ومن ثم صاغ حركة الأجسام صياغة رياضية فهو قد كتب عبارته المشهورة في أحد كتبه أن الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات. وقد اتبع طرق التجريب في البحوث العلمية فهو الذي صعد برج بيزا في إيطاليا وأسقط ثلاث كرات متساوية الحجوم متفاوتة الأوزان وتوصل إلى نتيجة مهمة جدًّا وهي أن جميع الأجسام تسقط باتجاه الأرض بتسارع واحد فإذا ما سقطت من علو واحد فإنها تصل إلى الأرض في نفس اللحظة إذا ألغينا أي اعتبار للهواء من الحسبان.
وهو بذلك قد أطاح برأي أرسطو السائد في الوسط العلمي الذي يرى أن الجسم الثقيل يسقط بمعدل سرعة أكبر من الجسم الخفيف وهو الرأي الذي استمر مقبولًا لما يقرب من الألفي عام. ومما قام به هذا العالم أنه في العام 1609 أنه صنع منظارًا ذا عدستين وبدأ بمراقبة حركة الكواكب ودوّن ملاحظاته ونظرياته في كتاب، وكان مما دوّنه أمر سبّب هزة كبيرة ولحظة صدام مباشرة مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية أو لنقل مع ظاهر الإنجيل أو مع التفسير الكنسي الكاثوليكي للإنجيل والذي لا يعبر بالضرورة عن حقيقة الإنجيل.
هذه الواقعة وضعت معارف الفيزياء الحديثة أمام أزمة معرفية كبرى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. فقد شاهد جاليلو أقمار المشتري تدور حوله واستنتج على خلاف تعاليم الكنيسة أن المشتري وأقماره نظام مصغر عن النظام الشمسي وبذلك انتهى إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس متبنيًا بذلك نظرية كوبرنيكوس في النظام الشمسي ومعتبرًا أن هذه الحركة الظاهرية للشمس حول الأرض هي نتاج حركة الأرض حول نفسها وقد تمت محاكمته ومنعه من الكتابة حول هذه الأفكار.
لكن ما كانت الكنسية في ذلك الوقت لتعترض على جاليلو وتمنعه من الكتابة وتضعه رهن الاعتقال لو أنه لم يكن يرى في النظام الجديد الذي تدور فيه الأرض وبقية الكواكب حول الشمس إلاّ نموذجًا رياضيًّا أبسط من القديم ، يسهل الكثير من الحسابات الفلكية والتنبؤات. كان يمكن للكنيسة أن تتبنى هذا النظام الجديد لا على أساس أنه حقيقة واقعية بل على أساس أنه نموذج رياضي وظيفي فقط أو فرضية رياضية أو ربما خدعة رياضية اخترعت من أجل تبسيط الحسابات وتقدير أفضل للحوادث الفلكية المعروفة في ذلك الوقت.
في الواقع لم يكن جاليلو ليقدم إلى المحاكمة إذا كان منسجمًا مع ما قاله القس اندرياس أوسنايدر الذي عاش في القرن السادس والسابع عشر الميلاديين وهو كلام يصف بدقة الأزمة في نظرية المعرفة ويؤسس لهذا التفاعل بين معارف الفيزياء ونظرية المعرفة حيث قال ”لا يوجد حاجة لأن تكون هذه الفرضيات حقيقة، ولاحتى تشبه الحقيقة بل هناك شيء واحد وهو أن هذه الفرضيات تنتج حسابات تتطابق مع المشاهدات”(2)
هذه المقولة تضع الفيزياء والعلوم في قلب الأزمة المعرفية. فهل تتحرك الفيزياء مستهدفة الكشف عن هذا الواقع والتعبير عنه رياضيًّا أو هي تتحرك في بناء النماذج الرياضية والمفيدة على المستوى العملي وليس لها قدرة على كشف الحقيقة الواقعية التي لا يتمكن للإنسان من معرفتها إلا عن طريق الوحي كما تقول الكنيسة. فماذا كان موقف جاليلو إزاء هذا التصور المتناقض لدور الفيزياء؟ رغم أن جاليلو يرى في نظام كوبرنيكس وسيلة رياضية للحسابات الفلكية لكنه في نفس الوقت يعتقد بأن هذا المحتوى الرياضي هو وصف حقيقي للواقع وليس مجرد آلة رياضية مفيدة في عدد من التطبيقات الفلكية من غير أن تكون كاشفة عن حقيقة هذا الواقع. وبالطبع فإن الكنيسة لم تكن ترغب في إدراك هذه الحقيقة في النظام الجديد لأنه كان يتناقض مع العهد القديم. هذا هو السبب الرئيسي لجعل الكنيسة ترى في النظريات العلمية مجرد نماذج مفيدة في عدد من التطبيقات لكنها خالية من أي محتوى وصفي للعالم.
هناك سبب أعمق يكشفه الأسقف الإنكليزي جورج بيركلي بعد مئة سنة تقريبًا وذلك عندما وجه نقده لنظرية نيوتن في الجاذبية. كان قد تطور نظام كوبرنيكس في عهد بيركلي الذي عاش في القرن السابع والثامن عشر الميلاديين إلى نظرية نيوتن في الجاذبية، وقد رأى بيركلي أن هذا التطور يمثل خطرًا على الدين وأنه كلما تقدمت العلوم زاد الخطر على الدين (على عكس ما يحدث الآن حيث نجد بعض علماء الفيزياء يقاومون بعض النظريات العلمية التي تدعم وجود الخالق) وانتهى بيركلي بعد تحليله لمفاهيم نظرية نيوتن على أنها محض فرضيات رياضية وليست حقائق هي عبارة عن آلة للحسابات والتنبؤات تعطي توصيفًا للظواهر ولا تعكس حقائق الواقع.
وخلاصة موقف المتدينين في ذلك الوقت أن العقل البشري بدون الوحي الإلهي غير قادر على كشف أسرار الواقع. ويتطابق هذا الموقف مع أصحاب مذهب الشك اللذين يشككون في قدرة العقل للوصل إلى حقائق يقينية. وانقسم الفلاسفة بالنسبة للنظرية العلمية بين فلسفة آلية ترى أن النظرية العلمية لا تصف الواقع ودورها الأساس قائم في صنع النماذج الرياضية التي تفيد في تطبيقات عملية وبين فلسفة جوهرية ترى أن النظرية العلمية تصف واقعًا يقبع خلف الظواهر الطبيعية وأن الهدف النهائي للنظرية العلمية هو في الوصول لهذا الواقع وبالتالي ننتهي لتفسير نهائي للظاهرة.
الفيزيائيون ظلوا بعيدين عن هذا الجدل الفلسفي غير المحسوم، متخذين منهج جاليلو في البحث عن الحقيقة كما تصورها. لكن ذلك كان في الماضي أما اليوم فالنظرة إلى العلوم الطبيعية على أنها مجرد آلة رياضية تتطابق مع نتائج التجارب ولا تعبر عن حقيقة الواقع كما أسس لها كل من اسانيدر وبيركلي هي التي سادت وأصبحت دغمائية مقبولة في الوسط العلمي باستثناء اينشتاين وشرودينغر وآخرون. والسؤال هنا كيف انتصرت النظرة الآلية هذه؟ يعزو بوبر انتصار الفلسفة الآلية إلى عاملين:
صعوبة تفسير النظرة الكمية.
النجاحات العملية التي حققتها النظرية وتطبيقاتها.
هذه الواقعة وضعت معارف الفيزياء الحديثة أمام أزمة معرفية كبرى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. ولسوف نستوحي من هذه الواقعة المحاطة بأسوار الشك المعرفي والتفسيرات الفلسفية المتناقضة للمعرفة العلمية طريقنا في مقاربة المشروع الفكري لكارل بوبرفي مختلف أبعاده.
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
عبدالله طاهر المعيبد
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
نظريّة المعرفة عند كارل بوبر (1)
سورة الناس
إسلام الراهب بُرَيْهَة على يد الإمام الكاظم (ع)
النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (3)
هل نحتاج أن نقرأ لنتعلّم أم يكفي الاستماع؟ ماذا يقول علم الأعصاب؟
اختتام النّسخة العاشرة من حملة التّبرّع بالدّم (دمك حياة)
الإمام الكاظم (ع) في مواجهة الحكّام العبّاسيّين
السّيّدة رقيّة: اليتيمة الشّهيدة
وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ
إيثار رضا الله