يرشح من هذه الواقعة عدد من التساؤلات المركزية في المضمار التي ترتبط به العلوم بمختلف الرؤى الفلسفية؟ منها إذا كانت للفيزياء أن تمضي في أبحاثها بعيدًا عن هذا الجدل الفلسفي فما هي الأهمية التي تشكلها نظرية المعرفة على العلوم؟ وقد رأينا في هذه القصة التناقض في تفسير النظرية العلمية فما هي حقيقة النظرية العلمية من الزاوية المعرفية وكيف تتمايز عن غيرها من النظريات في الحقل الاجتماعي والنفسي والتاريخي؟ وكيف تنمو المعرفة العلمية ضمن إطار التفسير المعرفي للنظرية العلمية وكذلك كيف نضع الحد الذي يفصل العلوم عن الميتافيزياء؟ سنتعرف في هذه الورقة بشكل موجز على طريقة مناقشة كارل بوبر لهذه المسائل التي تمثل مراكز ثقل في نظرية المعرفة.
وسنبدأ بالسؤال المهم والمركزي وهو ما هي أهمية نظرية المعرفة وتاثيرها على واقع العلوم والحياة؟ هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر أعمق يتصل بأهمية الفلسفة ذاتها ومدى قدرتها على التأثير العملي على الواقع؟ هناك فلاسفة يعتقدون أن طبيعة الفلسفة لا تملك أي تأثير مهم على مجريات الواقع. لكن كارل بوبر يعتقد بأن للأفكار أهمية كبرى في التأثير على الحياة وأن هذه الأفكار ما كانت لتحظى بالقبول عند الناس لو لم تكن هناك النظرة المعرفية التي ترى أن الواقع يزخر بحقائق موضوعية وأنه بالتالي يمكن فهمه والتأثير فيه.
يضرب بوبر مثلاً بالثورات التحررية التي بدأت في عصر النهضة في أوروبا وهي ثورات مستوحاة من قدرة الإنسان على فهم هذا الواقع والتفاعل معه وثم محاولة تغييره. يسمي بوبر نظرية المعرفة التي ترى في الواقع حقائق موضوعية وأن الإنسان يسعى لفهمه ومن ثم التأثير فيه بنظرية المعرفة المتفائلة. إن ميلاد العلوم الحديثة، كما يرى بوبر، هو من وحي هذه النظرة المتفائلة للمعرفة والتي نظر لها كل من ديكارت وفرانسيس بيكون. وكانت تعاليمهما تؤكد على أن الإنسان يحمل في ذاته مصادر المعرفة فالتصورات التي يزوده بها جهازه الحسي تعطيه القدرة على مراقبة الطبيعة ورصد ظواهرها وعقله يجعله قادرًا على تمييز الحقيقة من غيرها.
هذه النظرة المتفائلة ارتبطت تاريخيًّا بالأفكار التحررية، فالإنسان يستطيع أن يعرف لذلك يمكن أن يكون حرًّا. في المقابل فإن النظرة المتشائمة للمعرفة التي تنظر إلى عجز الإنسان عن معرفة الواقع ارتبطت تاريخيًّا مع العبودية والفقر. وتقود هذه النظرة المتشائمة إلى تأسيس تقليد سلطوي يمارس هيمنته على الإنسان.
ما يميز المعرفة المتفائلة من المتشائمة هو قدرة الإنسان على تمييز الحقيقة وبالتالي حقه في رفض أي سلطة أو تقليد مؤسس على اللامعقول أو الأحكام المسبقة. بينما في حالة غياب الحقيقة الموضوعية وعدم القدرة على تمييز الحقيقة من غير الحقيقة فنحن نواجه إما هيمنة التقليد وسلطته أو الفوضى.
من وحي هذا التفاؤل المعرفي تبرز مقولة أن الحقيقة متجلية وهي إما تتجلى بذاتها أو بالغير. وإذا تجلت الحقيقة فإن الإنسان يستطيع على ضوء العقل أن يراها. هذه الرؤية التي ترى تجلي الحقيقة أو سيادتها هي من صميم تعاليم ديكارت وبيكون. فديكارت يؤمن بأن ما نراه حقيقة يجب أن يكون كذلك وإلا فإن الله يخدعنا. الحقيقة الكاملة عند الله وبالتالي لابد أن تكون الحقائق جلية. بيكون يرى أن الحقيقة الكاملة في الطبيعة وأن الطبيعة كتاب مفتوح والذي يقرأه بعقل مفتوح لا يمكن أن يخطىء. السؤال إذا كانت الحقيقة جلية فما الذي يوقعنا في الخطأ؟ هل لأننا لا نود أن نرى الحقيقة أو لأننا نمتلك أحكامًا مسبقة أو أن هناك تأثيرات شيطانية أثّرت على عقولنا. أو أن هناك مؤامرة تستهدف إبقاءنا في حالة الجهل.
يرى بوبر أن الاعتقاد بالمؤامرة هو نتيجة حتمية للاعتقاد المتفائل بالحقيقة الجلية. فإذا كانت الحقيقة لا تتجلى فإنما يعني ذلك أنها أخفيت عن عمد. ويستطرد في المناقشة ويتساءل إذا كانت الحقيقة جلية فلماذا تصمد اعتقادات خاطئة لآلاف السنين؟ ولماذا يصعب اكتشاف أبسط الحقائق؟ تاريخ الطب يعطينا عدد من الأمثلة على ذلك. يعتقد بوبر وهو الرافض لفكرة سيادة الحقيقة أو تجليها رغم أن هذه الفكرة خرافة لكنها من زاوية التفاؤل المعرفي أحدثت ثورة معرفية وأخلاقية لأنها أعطت الإنسان الأمل في أنه بسلاح المعرفة سوف يتحرر من حياة البؤس والشقاء. ويصل بوبر في المناقشه لفكرة سيادة الحقيقة أو الحقيقة جلية الى نتيجة في غاية الخطورة وهي أن هذه الفكرة أسست لكل أشكال الأصولية. لأنها تستبطن فكرة أن بعض الناس لأنهم أشرار لا يستطيعون رؤية الحقيقة أو لأن لديهم أسبابًا يخشون فيها تجلي الحقيقة فإنهم يتآمرون عليها.
وسؤال ماهية النظرية العلمية؟ وكيف نفرق بينها وبين النظريات الأخرى في الحقل النفسي أو الاجتماعي أو التاريخي؟
لقد اهتم بوبر كثيرا بالسؤال التالي وهو متى تكون النظرية صحيحة؟ والمناخ الذي قاد بوبر إلى الاهتمام بهذا السؤال هو عدد من النظريات التي عاصرها وهي نظرية اينشتاين في الجاذبية ونظرية ماركس في الجدلية التاريخية ونظرية كل من فرويد والفريد ادلر في التحليل النفسي. يذكر بوبر أنه في العام 1919 بدأ غير راض عن هذه النظريات الثلاثة الأخيرة في التاريخ والتحليل النفسي وبدأ يطرح التساؤل التالي لماذا هذه النظريات الثلاثة تختلف عن نظرية اينشتاين ونظرية نيوتن؟ في الظاهر أن لهذه النظريات قوة تفسيرية عالية.
وقد لاحظ بوبر أن المشترك بين هذه النظريات الثلاثة أنها قادرة على جمع عدد كبير من المؤيدات في التاريخ وفي الحقل النفسي. لقد لاحظ بوبر أن نظريتي فرويد والفريد ادلر وهما نظريتان مختلفتان في التحليل النفسي ولكن هناك حالات اكلينيكية تنطبق عليها نظرية فرويد وتنطبق عليها في ذات الوقت نظرية ادلر. الأمر الذي توقف عنده بوبر مشككًا في القيمة العلمية لهما.
إن ما يميز نظرية ماركس عن هاتين النظريتين هي أنها نظرية قابلة للاختبار وبالتالي يمكن تكذيبها. فنظرية ماركس في الجدلية التاريخية تنبأت بثورة اجتماعية على النظام الرأسمالي ولكن ذلك لم يحصل. وبدل من القبول بفشل النظرية قام أتباع الماركسية بتعديل النظرية لإنقاذها من الفشل. وهذا يعني أن مثل هذه النظريات لا يمكن أن تكون صحيحة من خلال الشواهد التي يحصلون عليها في عيادات التحليل النفسي أو الحقل التاريخي. لكن المسألة مختلفة مع نظرية اينشتاين، فنظريته لا تصححها المؤيدات على نحو الذي نراه في تلك النظريات. إن نظرية اينشتاين خرجت بعدد من التنبؤات منها على سبل المثال أن الضوء ينحني عندما يمر بجسم ثقيل. وقد تحقق علميًّا من هذه الظاهرة. فما هي النظرية العلمية برأي بوبر؟ هي ببساطة نظرية تقبل التكذيب لأنه يمكن اختبارها. ولا يوجد عند بوبر نظريات صحيحة بالمطلق بل يوجد اتجاه ترجيحي للنظرية بناء على اجتيازها عددًا من الاختبارات. وتظل النظرية مرجحة ضمن عدد من النظريات ما لم تكذبها بعض الاختبارات، حينئذ يتم استبدالها بنظرية أخرى تجاوزت كل الاختبارات السابقة.
أما كيف تنمو المعرفة العلمية وهل من حد نهائي تتوقف عنده؟ يرى بوبر أن العلوم بحاجة للتقدم والنمو لأنه إذا توقفت عن النمو فقدت طبيعتها العقلية والتجريبية. ما يقصده بوبر من نمو المعرفة العلمية ليس تراكم المشاهدات بل الفعل المتكرر في إسقاط النظريات العلمية وإحلالها بنظريات أخرى أكثر ملائمة. إن قيامنا بالفحص النقدي هو الذي يقودنا إلى اختبار النظريات ومن ثم اسقاطها وهذا بدوره يقودنا إلى تجارب وملاحظات جديدة لم نكن نتصورها. وهذه العملية تستمر الى ما لا نهاية. وهنا لا يرى بوبر حدًّا نهائيًّا للمعرفة لأنه لدينا جهل لانهائي.
فما الذي يعيق نمو المعرفة إذن؟ ويجيب بوبر إنه الفقر إلى الخيال المبدع. ويعتقد بوبر أن العلوم هي النشاط الإنساني الوحيد الذي يقدم نقده المنظم للأخطاء وثم مع الوقت يتم تصحيحها. يؤمن بوبر بنظام يحكم العلوم حتى قبل اختبارها وهو ما يسميه بالرضا النسبي المحتمل. والمعنى هو أنه يمكن أن نختار من بين عدد من النظريات النظريات التي بها محتوى معرفي كبير والتي تمتلك قوة تفسيرية أكبر وهي بالتالي قابليتها تكون أعلى بالقياس الى النظريات الأخرى. لكن هناك تناسب عكسي بين المحتوى المعرفي للنظرية واحتمال صحتها. فكلما زاد المحتوى المعرفي للنظرية قل احتمالها. ويفضل بوبر المحتوى المعرفي للنظرية على ضعف احتمالها لأن لديها قابلية أكبر للاختبار وثم التكذيب. والخلاصة أن بوبر يرى أن العلوم يمكن تصورها كمنظومة تتطور من مسائل إلى مسائل أعمق إلى ما لانهاية.
هناك أيضًا معضلة مركزية في نظرية المعرفة تتعلق بالحد الفاصل بين العلوم والميتافيزياء. ولنتذكر أن مشروع كانط النقدي قام على إمكانية أن تكون الميتافيزياء علمًا. ينظر بوبر في محاولات الوضعيين لوضع حد يفصل بين العلوم والميتافيزياء على أساس المحسوس وغير المحسوس على أنها غير صحيحة. إذن أين يمكن أن نرسم الخط الذي يفصل بين العلوم والميتافيزياء؟ ويجيب بوبر على أن الحد الفاصل بين العلوم و الميتافيزياء هو مبدأ التكذيب. فكل ما يقبل التكذيب يدخل في إطار العلوم وكل ما لا يقبل التكذيب يدخل ضمن الميتافيزياء.
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
عبدالله طاهر المعيبد
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
أضرار سكر الإريثريتول الصناعي
النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (4)
نظريّة المعرفة عند كارل بوبر (2)
(كائنات المجاز) ديوان شعريّ للشّاعر علي الدّندن
(المشكلة الاجتماعيّة، دراسة إبستيمولوجية) جديد الدكتور حسن العبندي
المجتبى: نعش على قارعة السّهام
نظريّة المعرفة عند كارل بوبر (1)
سورة الناس
إسلام الراهب بُرَيْهَة على يد الإمام الكاظم (ع)
النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (3)