علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

الحدث الحسيني وإمكانات التحقق التاريخي (1)

التاريخ نهر جار، يتدفق بعنفوان، يسوق البشرية في منعطفات حادة، يجرعها كل ألوان العذابات وإن استقام جرى بهم الهوينا وأذاقهم من لحظات السعادة والهناء، لكنه نادراً ما يفعل لأن الإنسان ظلوم كفار.

 

يتميز الإنسان بأن له حضورين، حضور في الطبيعة وهو فيها خاضع ومقهور بقوانينها ولا يختلف في هذا الحضور عن حضور الحيوان أو النبات. وللإنسان حضور آخر ينفرد به عن غيره وهو حضور في التاريخ. وحده الإنسان يحضر في التاريخ، يصنع التاريخ كما أن التاريخ يصنعه. إنه حضور مقصور على الإنسان لما له من قدرة على التفكير والكلام وتغيير حياته وتسخير قوانين الطبيعة من أجل رفاهيته. كما أنه في بعده الروحي يملك إرادة يدير بها تناقضاته وصراعاته الداخلية وينفتح بها على مسارات مختلفة لحياته. فإرادته الحرة تبني وتهدم، تخاصم وتسالم، تبسط يدها وتقبضها. إنه حضور يمكن الإنسان من صنع الحدث الذي يحول الزمان الكوزمولوجي – الطبيعي إلى زمان إنساني يحضر الماضي في الراهن بقوة، ويؤثر الراهن  في المستقبل،  ومن هنا يكون للتاريخ حركة ممتدة متصلة، يتصل فيها ماضي الإنسان بحاضره ويشكل مستقبله. لا حركة للتاريخ في حياة الحيوان فماضيه وحاضره ومستقبله سيان. يعيش الحيوان في الزمان الكوزمولوجي (الطبيعي) فقط وليس له زمانه الخاص.

 

وإذا كان للتاريخ حركة متصلة في الزمان الإنساني الذي يلتحم فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، فلابد أن يكون هناك فعل من نوع معين،  يمكن أن نسميه الفعل التاريخي،  يسهم في حركة التاريخ، فليست كل أفعال الإنسان تصنع للتاريخ حركته. فالإنسان يأكل وينام ويمرض ويموت ويتزاوج لكن هذه أفعال بيلوجية – فيزيولوجية وليست أفعالًا تاريخية. إن الفعل الإنساني الذي يدخل في الحقل التاريخي ويصنع حدثًا تاريخياً لابد أن يتميز عن غيره من الأفعال أو الأحداث. فما هي محددات الحدث التاريخي الذي يصنع تموجاً أو اضطراباً في التاريخ؟ هذا التموج يبدأ من مركز الاضطراب ويتحرك مؤثراً في الأحداث من حوله ويستمر تأثيره في المستقبل. وبعض هذه التموجات ضخمة جداً بحيث تنفلت من أي سياق محرك للتاريخ ولكنها عبر مفاعيلها الروحية تحاول أن توجه حركة التاريخ لنهايته الحتمية.

 

لكن كي نتمكن من معرفة المحددات التاريخية للحدث الموصوف بالتاريخي علينا أن نتعرف على التأثيرات التي يتركها حدث ما تاريخي في إسباغ ديناميكية خاصة للتاريخ. فمن تعقب الأثر الذي يخلفه الحدث التاريخ نتمكن من وعي محدداته التاريخية، فهل للأحداث التاريخية نتائج محددة، أم لها تأثيرات عشوائية وليس هناك ثمة قوانين خاصة تنتظم في سياقها التاريخي على غرار قوانين الطبيعة بحيث نعرف من خلالها نهايات محددة لهذه التموجات التاريخية. وإذا كان الجواب يعتمد على فهم السؤال فدعونا نستوضح السؤال من خلال هذه المقارنات بين الطبيعة والتاريخ، فالإنسان يحضر في الإثنين معاً. الإنسان محكوم ومقهور بقوانين الطبيعة، فهل حضوره في التاريخ تحكمه قوانين ترسم مصيره؟ بمعنى إذا كان التاريخ تصنعه أفعال الإنسان بمحدداتها التاريخية فهل لأفعاله عواقب حتمية؟ وهل هذه العواقب هي نتاج منطق خاص يحكم الفعل التاريخي. وكما أن الإنسان يتعرف على قوانين الطبيعة ويسخرها من أجل العمران وبناء الحضارة، فهل معرفة الإنسان بقوانين التاريخ تمكنه من معرفة مصيره في المستقبل؟ وهل هذه القوانين التاريخية تتناقض مع حرية الإنسان واختياره؟ وما الفرق بين القوانين التي تحكم الإنسان في الطبيعة وتلك التي تحكمه في التاريخ؟

 

الإجابة عن هذه التساؤلات تحدد وعينا بالتاريخ وعلاقتنا به. فإذا كان التاريخ مجموعة من الأحداث المتناثرة والعشوائية وتمارس تأثيراتها في الدائرة القريبة منها ولا يكون لها سلطة على المستقبل، فمستقبل الإنسان تشكله إرادته بدون الحاجة لفهم التاريخ أو العودة إلى الماضي. فهذا يجعل التاريخ محصوراً في الماضي فقط والمعرفة به لا تعطي ثمرة الحاضر ولا تصنع ثمرة في المستقبل. أما إذا كان التاريخ له وحدة عضوية وتيار متصل يسير في مسارات محددة، فكل خيار لنا يوجه هذا التيار في مسار محدد نحو مآلات محددة ومحتومة، فإن وعينا بالتاريخ له أهميته البالغة في توجيه مسارات الحركة في التاريخ نحو الوجهة التي نريد لها ان تكوّن مصيرنا المحتوم.

 

بهذا يكون المستقبل يحدده الماضي وخيارات الحاضر، ويشبه تماماً المعادلات التحددية التي تمكن الفيزيائي مثلاً من معرفة موقع جسم أو سرعته بناءً على معرفته بحالته الراهنه. يتحول التاريخ في وعينا إلى تاريخ علمي له قوانين تنظم مسيرة الاجتماع البشري، وأنه لا يمكن بحال الانفكاك عن قهارية هذه القوانين، ما يجعل وعينا بالحدث التاريخي ضرورة لأنها تشكل مصيرنا. عندها يكون فهمنا للماضي ليس من باب الترف بل ضرورة لمعرفة أين يتحرك بنا التاريخ؟  وأين سيضعنا في المستقبل؟ وكيف نعمل على توجيه حركته في مسار مختلف؟ هنا يغدو التاريخ مصنعاً ضخماً يُصنع فيه مستقبلنا عبر مسارات تحركت في الماضي. إن لم نفهم كيف يعمل وكيف نؤثر فيه بحيث يأخذنا في المسار الآخر الذي نريد، وإلا فإن حتمية تاريخية ما ستقرر مصيرنا.

 

محددات الفعل التاريخي

 

لم يهتد الإنسان إلى قوانين خاصة في التاريخ، تتحكم في الاجتماع الإنساني وتقرر على ضوئها مصيره ومآلاته إلا مع القرآن الكريم. القرآن هو الكتاب الأول الذي فتح العقل الإنساني في آيات كثيرة صريحة، واضحة عن وجود قوانين يطلق عليها القرآن سنن تحكم اجتماعه السياسي والاقتصادي والثقافي. بعد نزول القرآن بثماني قرون عمل ابن خلدون على فهم التاريخ فهما علمياً، يضع التاريخ في مصاف العلوم الطبيعية، له دوراته التاريخية تماماً كدورة الماء في الطبيعة. فما هي الرؤية القرآنية لسنن التاريخ ؟ لنكتشف، ولو بصورة موجزة، من آيات القران المتناثره في سوره المختلفة هذه السنن التي يوصفها القرآن بأنها لا تتبدل ولا تتحول. فسنن التاريخ – قوانينه – مضطردة ثابته تمتلك موضوعية ومتى تحققت الشروط الموضوعية للحدث التاريخي فإنها تفضي دائماً إلى نتائج محددة. فكما أن قوانين الطبيعة تمتلك ثباتاً واضطراداً، حيث تتحقق الظاهرة في الطبيعة كلما استوفت شروطها الموضوعية فكذلك تكون سنن التاريخ.

 

يفرق القرآن بين وجود الإنسان كفرد وبين وجوده في المجموع، جاعلاً – القرآن – من المجموع البشري كائناً كبيراً له حياة وله موت وله حسابه الخاص. المجتمع كائن حي ينصهر الفرد فيه بالمجموع، فيحاسب المجتمع على قرارته الجمعية وعلى سلوكه الجمعي. هكذا يعبر القرآن عن هذا الكائن الاجتماعي العملاق بأن له أجل  ”لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ…”  (يونس: الآية 49) وحساب ”وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (الجاثية: الآية 28)، ويعبر القرآن تعبيراً صريحاً عن وجود هذه السنن التي تحكم منطق التاريخ وأن على الإنسان أن يتتبع أحداث الماضين لاكتشافها لكي يتجنب مصير الماضين ويوجه بوصلة التاريخ نحو مستقبل أفضل ”قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” ( آل عمران: 137).

 

وقد أعطانا القرآن بعضاً من هذه السنن، فيخبرنا الله عز وجل في كتابه أن الانتصار له شروطه الموضوعية ”وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ” (الأنعام: الآية 34) ويرسم القرآن مستقبل الإنسان كفرد وفي المجموع  بناءً على خياراته، ليحمله مسؤولية مصيره، فليس القضاء والقدر إلا أن يأخذ الإنسان والكائن الاجتماعي قرار مستقبله عندما يحسم خياراته الداخلية ”إنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد: الآية 11).

 

مصير الأمة بيدها، عليها أن تختار وعندما تختار فإن سنن الله في التاريخ تتحرك بها نحو مصيرها المحتوم والمقدر والذي لا يمكن تحويله أو تغييره. هذه السنن تجري على كافة المجتمعات وبدون استثناء ولا يستثنى منها حتى الأنبياء والصالحون،  يضرب الله لنا مثالاً يخبرنا فيه عن النتيجة المحتومة لأمة من الأمم عندما تمارس فعلاً ما ”ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (الأنفال: الآية 53).

 

القرآن الكريم يخبرنا عن سنن في التاريخ لكنها سنن تحكم نوعا خاصاً من الأحداث وليست كل ما يجري في التاريخ. ليس كل حدث في التاريخ يصح أن نصفه بأنه فعلاً تاريخياً يتصل فيه الماضي بالحاضر والمستقبل في وحدة عضوية. هذه السنن كما بين القرآن الكريم في بعض من هذه الآيات التي بيناها تأخذ مجراها فقط في أفعال المجموعة البشرية التي يكون حاضرها قد شكله الماضي والمستقبل يشكله الحاضر. فالله أخبرنا بأن علينا أن نعي تاريخ الماضين لنعتبر من مصيرهم ونرسم طريق مستقبلنا. وعندما نتأمل في آيات الله فإننا نستكشف أن من هنا يمكن لنا أن نتعرف على المحددات التاريخية للفعل التاريخي.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد