قال أبو جعفر الطبري: وأمّا الّذي يدلّ على صحّته ظاهر القرآن، فقول ابن عبّاس، الّذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه، أنّه قال: هو علمه! وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره: (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما)، على أنّ ذلك كذلك، فأخبر أنّه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به، ممّا في السماوات والأرض. وكما أخبر عن ملائكته أنّهم قالوا في دعائهم: (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) «1»، فأخبر - تعالى ذكره - أنّ علمه وسع كلّ شيء، فكذلك قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).
قال: وأصل الكرسيّ العلم. ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كرّاسة. ومنه قول الراجز في صفة قانص: «حتّى إذا احتازها تكرّسا» يعني: علم. ومنه يقال للعلماء: الكراسيّ، لأنّهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني بذلك أنّهم العلماء الّذين تصلح بهم الأرض.
ومنه قول الشاعر:
يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة
كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يعني بذلك: علماء بحوادث الأمور ونوازلها.
والعرب تسمّي أصل كلّ شيء: الكرس. يقال: منه فلان كريم الكرس أي كريم الأصل. قال العجّاج:
قد علم القدّوس مولى القدس
أنّ أبا العبّاس أولى نفس
بمعدن الملك الكريم الكرس
يعني بذلك: الكريم الأصل.
ويروى: في معدن العزّ الكريم الكرس «2».
قال أبو إسحاق الثعلبي: رأيت في بعض التفاسير: كرسيّه: سرّه. وأنشدوا فيه:
مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه
وهل بكرسيّ علم الغيب مخلوق «3»
قال: وقال الحسن البصري: الكرسيّ هو العرش بعينه. وحكى الأستاذ أبو سعيد عبد الملك عن أبي عثمان الزاهد عن بعض المتقدّمين: أنّ الكرسيّ اسم ملك من الملائكة، أضافه إلى نفسه تخصيصًا وتفضيلًا، فنبّه به عباده على عظمته وقدرته. فقال: إنّ خلقًا من خلقي وسع السماوات والأرض، فكيف تقدّر قدرتي وتعرف عظمتي؟! «4».
وهناك أخبار وآراء عن العرش والكرسيّ، لا تعدو أوهامًا نسجتها أوتار الخيال: أخرج ابن جرير عن أبي موسى الأشعري، قال: الكرسيّ، موضع القدمين. وله أطيط كأطيط الرحل «5». وعن السدّي: السماوات في جوف الكرسيّ، والكرسيّ بين يدي العرش، وهو موضع قدميه. وعن الضحّاك: كرسيّه الّذي يوضع تحت العرش، الّذي يجعل الملوك عليه أقدامهم. وعن مسلم البطين: الكرسيّ موضع القدمين «6».
وأسندوا إلى ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «كرسيّه موضع قدمه. والعرش لا يقدّر قدره!» «7». وأيضًا أسندوه إلى ابن عبّاس من غير رفع. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصحّحه والخطيب والبيهقي عن ابن عبّاس، قال: الكرسيّ موضع القدمين، والعرش لا يقدّر أحد قدره «8».
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي عاصم في السنّة والبزّار وأبو يعلى وابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة عن عمر، قال: إنّ امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقالت: ادع اللّه أن يدخلني الجنّة! فعظّم «9» الربّ - تبارك وتعالى - وقال: «إنّ كرسيّه وسع السماوات والأرض وأنّه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثمّ قال بأصبعه فجمعها: وإنّ له أطيطًا «10» كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله» «11».
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والدارمي والحاكم عن ابن مسعود قال: قال رجل: يا رسول اللّه ما المقام المحمود؟ قال: «ذلك يوم ينزل اللّه على كرسيّه، يئطّ منه كما يئطّ الرحل الجديد من تضايقه، وهو كسعة ما بين السماء والأرض!» «12». وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن أبي مالك في قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال: إنّ الصخرة الّتي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها عليها أربعة من الملائكة، لكلّ واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه ثور، ووجه نسر، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسيّ، والكرسيّ تحت العرش، واللّه واضع كرسيّه على العرش. قال البيهقي: هذا إشارة إلى كرسيّين. أحدهما تحت العرش والآخر موضوع على العرش! «13».
وقال مقاتل بن سليمان: يحمل الكرسيّ أربعة أملاك، لكلّ ملك أربعة وجوه، أقدامهم تحت الصخرة الّتي تحت الأرض السفلى، مسيرة خمسمائة عام، وما بين كلّ أرض مسيرة مئة عام، ملك وجهه على صورة الإنسان وهو سيّد الصور، وهو يسأل الرزق للآدميّين، وملك وجهه على صورة سيّد الأنعام يسأل الرزق للبهائم وهو الثور، لم يزل الملك الّذي على صورة الثور، على وجهه كالغضاضة، منذ عبد العجل من دون الرحمان، وملك وجهه على صورة سيّد الطير وهو يسأل اللّه الرزق للطير وهو النسر. وملك على صورة سيّد السباع وهو يسأل الرزق للسباع وهو الأسد! «14».
قلت: تلك سخائف القوم سوّدوا بها صحائف كتبهم من غير دراية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) غافر 40 : 7.
(2) الطبري : 3 : 16.
(3) الثعلبي 2 : 232.
(4) المصدر : 233.
(5) الأطيط : صوت الأقتاب الّتي توضع على ظهر البعير.
(6) الطبري 3 : 15 ؛ ابن كثير 1 : 317 ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : 565 ؛ العظمة 2 : 627 - 628.
(7) أورده شجاع بن مخلّد في تفسيره . تاريخ بغداد 9 : 252 / 4828 ؛ ابن كثير 1 : 317.
(8) الدرّ 2 : 17 ؛ ابن أبي حاتم 2 : 491 / 2601 ، بلفظ : عن ابن عبّاس ، قال : الكرسيّ ، موضع قدميه ؛ الكبير 12 : 31 / 12404 ؛ العظمة 2 : 528 / 216 - 27 ، باب 9 ؛ الحاكم 2 : 282 ، كتاب التفسير ، فضل آية الكرسيّ وتفسيرها ؛ تاريخ بغداد 9 : 252 ؛ الأسماء والصفات ، الجزء الثالث : 565 ؛ عبد الرزّاق 3 : 250 / 3030 ، سورة النجم ؛ مجمع الزوائد 6 : 323 ، كتاب التفسير ، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح.
(9) أي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عظّم الربّ وقال . . .
(10) الأطيط : صوت الاقتاب الّتي توضع على ظهر البعير.
(11) الدرّ 2 : 17 ؛ كتاب السنّة : 251 / 547 ، إسناده ضعيف ؛ مسند البزّار 1 : 457 / 325 ؛ الطبري 3 : 16 / 4524 وبعده عن عبد اللّه بن خليفة عن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ؛ العظمة 2 : 548 / 193 - 4 ، باب 9 ؛ ابن كثير 1 : 317 ؛ مجمع الزوائد 1 : 83 - 84 ، كتاب الإيمان ، و 10 : 159 وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى في الكبير ورجاله رجال الصحيح غير عبد اللّه بن خليفة الهمذاني وهو ثقة ؛ كنز العمّال 10 : 373 - 374 / 29863.
(12) الدرّ 2 : 18 ؛ العظمة 2 : 594 - 595 / 225 - 36 و 637 - 638 وفيه : « فهي تئطّ من عظمته وجلاله كما يئطّ الرحل الجديد » ؛ الدارمي 2 : 325 ، باب في شأن الساعة ونزول الربّ تعالى ؛ الحاكم 2 : 364 ، كتاب التفسير ، سورة الإسراء ، ذيل الآية 79 ؛ كنز العمّال 14 : 412 / 39109 .
(13) الدرّ 2 : 18 ؛ العظمة 2 : 551 / 195 - 6 ، باب 9 ، وفيه : «واللّه عزّ وجلّ على الكرسيّ» بدل «واللّه واضع كرسيّه على العرش».
(14) تفسير مقاتل 1 : 213.
السيد جعفر مرتضى
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد هادي معرفة
د. سيد جاسم العلوي
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
المعاهدات في الإسلام (1)
السّعادة حسن العاقبة
معنى: (ضَلَع الدَّين وبوارِ الأيِّم)
أكبر عيّنة مجرّات على الإطلاق على بعد أكثر من 12 مليار سنة ضوئيّة
حقيقة التأويل في القرآن الكريم (2)
العرش والكرسيّ (2)
إنتروبيا الجاذبية والشروط الابتدائية الخاصة في لحظة الانفجار الكونيّ العظيم (2)
حبيب المعاتيق في المدينة المنوّرة: تسعة أعشار الوجد
كيف يصنع الدماغ العادة أو يكسرها؟
إنتروبيا الجاذبية والشروط الابتدائية الخاصة في لحظة الانفجار الكونيّ العظيم (1)