مناطق سكنى أهل الكتاب
وبعد، فإن النصارى لم يتوغلوا في قلب الجزيرة العربية، بل كانوا يسكنون على أطرافها: الحيرة، وبلاد الشام، وكانت بعض القبائل العربية تدين بالنصرانية، دون أن يلتزموا بطقوسها الدينية إلا بصورة ضعيفة. أما اليهود، فقد كانوا أولاً هم حكام يثرب، بعد أن قدموها من بلاد فلسطين، فراراً من الاضطهاد الذي حاق بهم، ثم قدمها الأوس والخزرج القحطانيون من اليمن، وتغلبوا عليها، وحصروا اليهود ـ وهم ثلاث قبائل: بنو النضير، وقينقاع، وقريظة ـ في مناطق معينة في المدينة وأطرافها، وكانوا يسكنون فدكاً وتيماء أيضاً.
ويذكر هيكل: أنه كان يحظر على اليهود والنصارى سكنى مكة، إلا أن يكون أجيراً، لا يتحدث بشيء من أمر دينه ومن أمر كتابه، ثم يستثني في موضع آخر: العبيد منهم. ولكننا نجد: أنه كان يسكنها المتنصرة من العرب كورقة بن نوفل وأضرابه، وعلى كل حال، فإن هذا الأمر لا يهمنا تحقيقه كثيراً.
أهل الكتاب وهيمنتهم العلمية على العرب
وما يهمنا هنا: هو الإشارة إلى أن العرب كانوا ينظرون إلى أهل الكتاب نظر التلميذ إلى معلمه، ويعتبرونهم مصدر الثقافة والمعرفة لهم، حتى إننا لنجد في التاريخ: أن العربي كان إذا أراد الإسلام يستشير حبراً، أو راهباً في ذلك، بل نجد قبيلة بكاملها تذهب إلى يهود فدك وتسألهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بعد أن عرض دعوته عليهم. كما ويعرض الإسلام على كندة؛ فيأبونه؛ فيستدل بعضهم على صدق هذا النبي بأن اليهود قد قالوا: إنه سوف يظهر نبي من الحرم قد أظل زمانه. وإسلام أهل المدينة كان في مبدئه مستنداً إلى نظير هذه الحجة...
وعن ابن عباس، قال: (كان هذا الحي من الأنصار ـ وهم أهل وثن ـ مع هذا الحي من اليهود، وهم أهل كتاب، فكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم). وقد أسلم وفد أهل الحيرة، وكعب بن عدي، فلما توفي (صلى الله عليه وآله) ارتابوا؛ فثبت كعب على الإسلام، قال: ثم خرجت أريد المدينة، فمررت براهب كنا لا نقطع أمراً دونه، إلى آخر كلامه الذي ذكر فيه حصول اليقين له، بسبب كلام الراهب.
وليلاحظ بدقة قوله: (كنا لا نقطع أمراً دونه)! وإن أبا سفيان قد سأل كعب بن الأشرف عن: أن أي الدينين أرضى لله تعالى، دينه أم دين محمد؟! وقالت قريش لبعض يهود بني النضير، وهم: سلام بن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب وكنانة بن الربيع، حين ذهبوا إلى مكة ليحرضوا الأحزاب على حرب المسلمين، قالت لهم قريش: (يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد؛ أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم، ونشطوا لما دعوهم إليه الخ..).
ونحن وإن كنا نعلم أن زعماء قريش كانوا يعلمون الحق، ولكنهم كانوا يكتمونه عناداً واستكباراً لقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ...﴾. ولكن الذي يلفت نظرنا: هو هذا الاستغلال لنفوذ اليهود، وهيمنتهم العلمية، واعتبارهم مصدراً للمعارف الدينية. وبالمناسبة فإن التاريخ يعيد نفسه، فإن نظرة المسلمين إلى الأوروبيين الآن تشبه تماماً ما كانت عليه في الجاهلية.
وأخيراً، فقد قال الحلبي وابن هشام: (لا يخفى: أن كفار قريش بعثوا النضر بن الحرث، وعقبة بن أبي معيط، إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: اسألاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول) ثم ذكر ما جرى بينهم وبين اليهود، ثم ما جرى لهم مع النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة.
والخلاصة: أن إخبارات أهل الكتاب تلك قد غرست في ذهن العربي أن نبياً سوف يخرج من منطقته، مما سهل عليه قبول دعوته (صلى الله عليه وآله)، والإذعان للحق الذي جاء به؛ لأن الناس ـ باستثناء أصحاب المطامح والأهواء، والطواغيت منهم ـ لصفاء وسلامة طباعهم، وكونهم أقرب إلى الفطرة، وعدم تلوث فكرهم بالشبهات والفلسفات المعقدة كانوا يتقبلون الحق، ويذعنون له، وقبليتهم وعاداتهم إنما كانت تمنع فقط من انقياد بعضهم لبعض، بسبب غلظتهم، وأنفتهم، وبعد هممهم، ولكن لم يكن ذلك يمنعهم من قبول الحق، والإذعان لإرادة السماء.
الفراغ العقائدي والسياسي
الفراغ العقائدي
لقد كان العرب يعانون من فراغ عقائدي هائل، عبَّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (بعثه، والناس ضلال في حيرة، وحاطبون في فتنة، حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل). ويكفي أن نذكر: أنهم حتى عبادتهم للأصنام قد كانت ملونة باللون القبلي، فلكل قبيلة بل لكل بيت وثن، وطريقة.
وكثيراً ما كانت دوافعهم إلى عبادة تلك الأصنام عاطفية، بعيدة عن أساليب التبرير العقلي، والمنطقي، فارتباط العربي بهذا الصنم إنما هو لأن هذا الصنم مرتبط بتاريخ أبيه أو جده، فالعربي يعتز بنسبه بحسب طبعه، وبما ينسب إليه، قال تعالى حكاية لذلك عنهم: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ومما يدل على أن عبادتهم للأصنام لم تكن عن تعقل وقناعة: هو أن الذين كانوا يرجعون إلى فطرتهم، وإلى عقولهم سرعان ما يدركون منافرتها للفطرة، ولأحكام العقل السليم، ويرغبون بالخروج من هذا الجو، ولذلك نجد المؤرخين يذكرون: أن عبد المطلب قد رفض عبادة الأوثان. كما ويذكرون: أن ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش قد تبرموا من عبادة الأوثان، وعبروا عن ضعف ثقتهم فيها، فاجتمعوا وتشاوروا فتنصّر الأولان، وبقي الآخران في حيرتهما وشكهما.
الفراغ السياسي
إن أرض العرب القاحلة، والجو الحار الذي تتميز به، وحياتهم المتنقلة من مكان إلى مكان، وقدرتهم على تحمل المشاق، قد جعل السيطرة عليهم شبه مستحيلة، بل جعلهم بحسب طبيعة ظروفهم الحياتية قادرين على توجيه الضربات القاصمة لكلِّ دخيل، وجعله في رعب دائم، وخوف مستمر، الأمر الذي أسهم بشكل فعال في إبعاد أطماع المستعمرين عن منطقتهم، مع قناعة المستعمر بأنه سوف لا يجني الكثير من النفع في مقابل الكثير من الضرر الذي سوف يتعرض له، ولا سيما مع علمه بأن حب الانطلاق في البادية بلا رقيب ولا حسيب مغروس في دم العربي وفي روحه، وفي أعماق أعماق، ولا يتنازل عن ذلك بأي ثمن كان.
فكل ذلك قد جعل المنطقة في فراغ سياسي محسوس، بل إن شمالي الجزيرة العربية لم يتعرض لأي حكم أجنبي أصلاً.. نعم، قد تعرض جنوبها وهو اليمن لسلطة الأحباش لفترة قصيرة. وهذا الفراغ السياسي قد جعلها بعيدة عن نفوذ الأديان الكبرى بشكل فعال، ولو بفرض من السلطة الحاكمة، كالنصرانية والزرادشتية، وحتى عن التأثر باليهودية التي كانت تعيش بينهم ومعهم، فبقيت المنطقة بعيدة عن الشبهات والأفكار الغريبة والدخيلة، وإن كان قد تسرب إليها بعض اليهود فراراً من الرومان، ولكن لم يكن لهم أي نشاط ديني، أو لعله كان، ولكنه لم يثمر، إذ لم يكن ثمة سلطة تدعمه سياسياً وإعلامياً، ولذلك فقد أشرنا إلى أنهم يذكرون أن نصارى تغلب ما كانوا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك.
وما ذلك إلا لأن النصرانية بعيدة عن عقل وفطرة الإنسان، ولا تستطيع أن تتصل بروحه ووجدانه لتفرض هيمنتها على أفعاله، وسلوكه. أما الإسلام، دين الفطرة، الذي استطاع بفترة وجيزة أن يصنع أمثال أبي ذر وعمار وسلمان، فـإنـه يتصل أولاً بعقل الإنسان، ثم بروحه ووجدانه، حتى يحوله إلى إنسان إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وقد استطاع أن يجعل من هؤلاء المتوحشين إلى الأمس القريب، والذين لا يلتزمون بنظام، ولا يحكمهم قانون أكثر الأمم اتباعاً للنظم، وأشدها إيماناً وإخلاصاً للقانون الإلهي.
كما ويلاحظ: أن من رباهم النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في فترات وجيزة جداً، مع محدودية إمكاناتهم لم تستطع الحكومات الأخرى، حتى التي تنسب نفسها إلى الإسلام أن تأتي بأمثالهم، رغم توفر كل الإمكانات لها، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الدور الكبير الذي يضطلع به القائد والحاكم الحق في تربية المجتمع وفي تزكيته. قال المعتزلي: (والغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية، وخشونة الطبع. ومن سكن المدن منهم، كأهل مكة والمدينة والطائف؛ فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة. ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف، ولا صاحب نظر وجدل، ولا موقع شبهة، ولا مبتدع نحلة الخ..).
وخلاصة الأمر
إن صفاء نفوس عرب الحجاز وعدم تلوثها بالأفكار، والانحرافات والشبهات الغريبة عن الفطرة، بالإضافة إلى الفراغ العقائدي، وعدم معقولية شركهم، وعبادتهم للأوثان، ثم الحالة الاجتماعية السيئة التي كانوا يعانون منها، كل ذلك قد أسهم إسهاماً كبيراً في نشر الدعوة الإسلامية وقبولها. ولذلك ترى أن كثيراً منهم كانوا يسلمون بمجرد سماعهم كلامه (صلى الله عليه وآله)، واطلاعهم على أصول دعوته وأهدافها، أو بمجرد أن يتلو عليهم القرآن.
وإذا ما رأينا ساداتهم وكبراءهم ـ عموماً ـ كانوا يجحدون بهذه الدعوة الحقة، فليس ذلك لأنهم لم يجدوا فيها ما يقنعهم، بل لأنهم وجدوها تضرّ بمصالحهم الدنيوية، وتصدهم عن مطامعهم اللاإنسانية؛ فهم مصداق لقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...﴾.
ولذلك نلاحظ: أن الناس مـا كانوا يتطلبون الاستدلال على التعاليم والأفكار الدينية كثيراً في أول الأمر؛ لأن صفاء نفوسهم، وسلامة فطرتهم، وعدم إرباكها وإرهاقها بالأفكار والفلسفات والشبهات كان كافياً لإدراك حقانية الدعوة، وسلامة أفكارها. وكانت الآيات إنما تحاول إرجاعهم إلى الفطرة وتدعوهم إلى التفكير والتعقل.
ولكن بعد أن دخلت الفلسفات والأفكار الغريبة، والشبهات المغرضة، إلى فكر وعقل هذا الإنسان، وحجبت فطرته، وأربكت تفكيره وأرهقت عقله، صار الناس يحتاجون أكثر فأكثر إلى الأدلة، ويتطلبونها من الأئمة (عليهم السلام)، بحسب نسبة تلوث فطرتهم بالشبهات والأفكار الغريبة.
الشيخ محمد صنقور
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد جعفر مرتضى
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ حسين مظاهري
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
الأرض في القرآن كرويَّة أم مسطَّحة؟
ليس كمثله شيء
إضعاف الذّكاء مسؤوليّة من؟
الاثنا عشريّة وأهل البيت عليهم السلام (3)
العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره (3)
العقل بوصفه اسمًا لفعل (1)
مسؤوليتنا في زمان صاحب الزمان
الغاية من طلب سليمان ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده
لكي لا نصبح أعداءً للإمام المهديّ!
(ملاك) الرّواية الثّانية لعبدالعظيم الضّامن