الحياة الصعبة، والتضحية بالنفس
وكانت بدائية العرب، وحياتهم الصعبة التي يعانون منها، قد جعلتهم أكثر إقداماً على التضحية في سبيل الدعوة التي يؤمنون بها عن قناعة وجدانية راسخة، ويتفاعلون معها تفاعلاً روحياً خالصاً. وذلك لأنهم لم ينعموا بحياة النعيم والرفاهية، التي لا تعب فيها ولا نصب، ولا آلام؛ ليصبح لهم تعلق شديد بالحياة، وحب، بل وعشق لها، فإن من الملاحظ: أنه كلما كانت الحياة رخية ناعمة مرفهة، ازداد تعلق الإنسان بها، وحبه لها، وكلما كان العكس، سهل عليه تركها، والتخلي عنها.
كما أن الدعوة التي سوف يتعرض أفرادها لمختلف أنواع الضغوط النفسية، والاقتصادية، والاجتماعية وأقساها، بحاجة ماسة إلى جماعة قادرين على مواجهة تلك الضغوط، وتحمل تلك الآلام، والصبر على التعذيب، والجوع والاضطهاد، بمختلف أنواعه.
وقد كان العرب ـ عموماً ـ كذلك؛ لأنهم قد عانوا من مشاق الحياة والطبيعة ما عانوا، وأصبحت الآلام والمتاعب والمصاعب هي الصفة المميزة لحياتهم بل هي خبزهم اليومي وغير ذلك هو الاستثناء، فهم أقدر من غيرهم على تحمل ما ينتظر أتباع هذه الدعوة؛ لأن المنعمين لا يستطيعون عادة تحمل المشاق، ومواجهة الصعوبات فإن الشجرة البرية أصلب عوداً، وأبطأ خموداً ؛ ولذلك نجد: أن بعض المسلمين كانوا يودون لو يجعلون امتيازاً لأحدهم، وهو ابن عمير لأنه كان منعمًا قبل أن يسلم، وحينما أسلم تعرض للمشاق والآلام، فذلك جعلهم يشعرون بأنه قد تحمل من المصاعب والآلام ما يوجب الرثاء والرحمة له؛ وما ذلك إلا انطلاقاً من الناحية التي أشرنا إليها آنفاً.
بقايا الحنيفية في العرب
وبعد، فإن مما ساعد على ذلك أيضاً، وجود بقايا الحنيفية ـ دين إبراهيم كالحج وآدابه ـ في الجزيرة العربية، وفي مكة بالذات؛ لأن العرب، وهم أولاد إسماعي ، قد توارثوا عنه الدين الحق وكانوا يعتزون بذلك، وقد قال الله تعالى لهم: ﴿ ... مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ... ﴾ (1). ولكنهم على مر السنين بدؤوا يخلطون هذا الحق بكثير من الباطل، شأن سائر الأمم، عندما يغشاها الجهل، وتستبد بها الأهواء، والانحرافات.
ثم تسرب إليهم الشرك، وعبادة الأوثان، حسبما قدمنا، ثم الكثير من الأمور الباطلة، والأخلاق الذميمة، والفواحش، حتى أصبحوا في الجاهلية العمياء، وحتى أدى بهم الأمر إلى الحالة التي وصفها لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما تقدم، غير أن بقية منهم ـ وإن كانت قليلة جداً ـ قد بقيت متمسكة بعقيدة التوحيد، وترفض عبادة الأوثان، وتعبد الله على حسب ما تراه مناسباً، وقريباً إلى تعاليم دين إبراهيم، مع التزام بعضهم الآخر بدقة بدين الحنيفية، ومن هؤلاء عبد المطل ، وأضرابه، من رجالات بني هاشم الأبرار.
وكان من بقايا الحنيفية تعظيم البيت، والطواف به، والوقوف بعرفة، والتلبية (2) وهدي البدن، وإن كانوا يطبقون ذلك مشوهاً وممسوخاً، ويقحمون فيه ما ليس منه، وكانت هذه المعالم تضعف رويداً رويداً مع الزمن، حتى لم يبق منها إلا الأسماء، والرسوم الشوهاء.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما مفاده: إن العرب كانوا أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس؛ فإن العرب يغتسلون من الجنابة، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية، وهم أيضاً يختتنون، وهو من سنن الأنبياء، كما أنهم يغسلون موتاهم، ويكفنونهم، ويوارونهم في القبور، ويلحدونهم، ويحرمون نكاح البنات والأخوات، وكانوا يحجون إلى البيت ويعظمونه، ويقولون: بيت ربنا، ويقرون بالتوراة والإنجيل، ويسألون أهل الكتب، ويأخذون منهم، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس (3).
إذن، فقد كان ثمة ذكريات بعيدة في ضمير ووجدان الإنسان العربي، تربطه بالحنيفية السهلة السمحاء، دين آبائه وأجداده ـ وهو الذي يعتز بالأنساب وصفائها، بحكم ما يتعرض له من الغزو والسبي الموجب للتهمة أحياناً ـ وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد بعث ليتمها؛ فمن الطبيعي أن يكون لهذه الذكريات أثر في نظرة كثير من الناس إليه، وإلى ما جاء به بإيجابية وواقعية.
الخصائص والعادات العربية
ولقد كان لبعض الخصائص، والأخلاق، والعادات العربية، أثر كبير في نشر دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، التي هي دعوة الحق والخير وشمولها، وإن كان الإسلام الذي استفاد من تلك الخصائص والعادات والأخلاق قد حاول إلى جانب ذلك تركيزها من حيث المنطلقات والأهداف على أسس صحيحة ومقبولة، وأما إن كانت مرفوضة إسلامياً، فإنه ـ وإن كانت قد أفادته تلقائياً، ومن دون أن يتطلب هو ذلك ـ كان يحاول القضاء عليها، واستئصالها بالحكمة والموعظة الحسنة، كلما سنحت له الفرصة، وواتاه الظرف.
فمثلاً: لقد استفاد الإسلام كثيراً من شجاعة العربي، واستهانته بالصعاب، في الدفاع عن الإسلام. وأيضاً، فقد كان للتعصب القبلي بعض الفوائد الهامة، حتى ليذكرون أنه بعد الهجرة إلى المدينة؛ كان الأوس والخزرج: (يتصاولان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً فيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) غناء إلا قالت الخزرج: والله، لا يذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الإسلام؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، قال: وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك) (4).
وأما قبل الهجرة في مكة، فقد كان للقبلية أثر كبير في منع قريش وغيرها مدة طويلة من المضايقات لكثير ممن اعتنقوا الإسلام، ثم من محاولة الاعتداء على حياته (صلى الله عليه وآله)، أو على حياة أكثر المسلمين آنذاك، وإن كانت تواجههم بالمضايقات أحياناً، وأحياناً بالتعذيب القاسي، إن لم يكن لهم عشيرة يرهب جانبها، حتى أذن الله تعالى لهم بالهجرة إلى المدينة.
ولذلك نلاحظ: أن أبا طالب (رحمه الله) قد استفاد كثيراً من العامل القبلي، حتى إن بني هاشم مسلمهم وكافرهم قد قبلوا بمحاصرة قريش لهم، وكانوا معه في شعب أبي طالب. وتجد في شعر أبي طالب الكثير من التأكيد على عامل القرابة بين بني هاشم وطوائف من قريش، الأمر الذي كان له أثر كبير في حفظ حياته (صلى الله عليه وآله) من كيد أعدائه كما قلنا.
بل إننا نجد المشركين حتى في عدائهم له (صلى الله عليه وآله)، وحتى حينما تآمروا عليه ليقتلوه ـ وكان ذلك هو سبب هجرته (صلى الله عليه وآله) ـ قد أخذوا بعين الاعتبار العلاقات القبلية، وردّات الفعل التي سوف تنجم عنها فاختاروا عشرة أشخاص، من كل قبيلة رجلاً، ليضربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيوفهم في آن واحد..
وفي المدينة أيضاً كان ثمة أثر كبير لكرم ضيافة العربي، ولوفائه بالعهد والذمار، ولحسن الجوار، ولحريته، وحميته، وأنفته وعزته، واعتداده بنفسه، وقوة إرادته، وللشجاعة، والإقدام، وحتى لصفات القوة والغلظة، التي ولدتها فيهم حياة الغزو والحرب، وجعلتهم قادرين على التخلي عن العواطف في سبيل دينهم وعقيدتهم، حتى لقد كانوا يقتلون أبناءهم، وآباءهم، وإخوانهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). القرآن الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 78، الصفحة: 341.
(2). ذكر اليعقوبي في تاريخه (ط صادر) ج1 ص254 ـ 257 تلبيات كل قبيلة، وأعطى نبذة عن شعائرهم في مكة، فمن أراد فليراجع.
(3). راجع : الاحتجاج ، للطبرسي ج2 ص91 ـ 92 والبحار ط مؤسسة الوفاء ج78 ص8.
(4). تاريخ الطبري ط الاستقامة ج2 ص184 د وراجع الكامل لابن الأثير ط صادر ج2 ص146.
الشيخ محمد مهدي الآصفي
محمود حيدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد جعفر مرتضى
السيد عادل العلوي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
أصل وحدة الأمّة في القرآن
رياضة النفس: تعريفها وأغراضها المتوسطة والنهائية
العقل بوصفه اسمًا لفعل (2)
الاثنا عشريّة وأهل البيت عليهم السلام (4)
العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره (4)
لوازم الأنس الإلهي (2)
حدبة الظّهر والوقاية منها
الدين والعقل ومذهب التفكيك بينهما
لوازم الأنس الإلهي (1)
الأرض في القرآن كرويَّة أم مسطَّحة؟