من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

المعاهدات في الإسلام (1)

يحدثنا التاريخ: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد عاهد بني النضير، كما عاهد غيرهم، ولعلّ أبرز عهد عقده هو عهد الحديبية، حيث أمر بكتابة نسختين للكتاب (1) لأن بالكتابة يتم الحفاظ على النص، ويمكن الالتزام به، ويكون مرجعاً لا يمكن التشكيك ولا المراء فيه فيما إذا ثار خلاف.

 

وقد اعتبر الإسلام هذه العهود وسيلة لإيقاف الحروب، وللمنع من نشوبها، تتوفر للإنسان المسلم في ظلها حرية التعبير، وحرية العمل والحركة كما سنرى.

 

وهذا بالذات هو السر في أننا نجد الإسلام قد أولى العهود والاتفاقات أهمية بالغة، ورسم لها حدودها، وبيَّن بوضوح تام مختلف الأصول والأهداف التي لا بد من رعايتها، والحفاظ عليها فيها.

 

وبديهي: أن دراسة هذا الموضوع بعمق، والإلمام بجميع جوانبه إسلامياً وتاريخياً، يتطلب بذل جهد كبير، ويحتاج إلى دارسة مستقلة ومنفصلة، وإلى وقت يتيح الفرصة للاطلاع على قدر كاف من الآيات الشريفة والنصوص الواردة عن النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام»، ثم دراسة المعاهدات التي عقدت في صدر الإسلام وظروفها، ولا نجد أنفسنا قادرين على توفير ذلك في ظروفنا الراهنة.

 

إلا أن ذلك لا يمنع من إيراد إلماحة سريعة، ترتكز ـ عموماً ـ على بعض ما ورد في هذا المجال في خصوص نهج البلاغة، فنقول:

 

من عهد الأشتر

 

قال «عليه السلام» في عهده لمالك الأشتر: « . . ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا؛ فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك، بعد صلحه؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن.

 

وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت؛ فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً، مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود.

 

وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر (2)؛ فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك؛ فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي.

 

وقد جعل عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره؛ فلا إدغال، ولا مدالسة ولا خداع فيه.

 

ولا تعقد عقداً يجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر لزمك ترجو انفراجه، وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله طلبته، فلا تستقيل فيها دنياك وآخرتك» (3).

 

الوفاء بالعهد

 

أما بالنسبة إلى ضرورة الالتزام بالعهود والوفاء بها، حتى لغير المسلمين، فإن الله تعالى يقول:﴿ ... فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ... ﴾ (4). ويقول سبحانه: ﴿ ... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ (5). ويقول :﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ... ﴾ (6). وفي آية أخرى: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ... ﴾ (7). فقد جعل الله العهد مع الأعداء عهداً لله سبحانه.

 

الشرط الأساس في كل عهد

 

وبعد.. فإن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد قرر: أن الشرط الأساس في كل عهد هو أن يكون «لله فيه رضا» كما ورد في عهده «عليه السلام» للأشتر «رحمه الله». وواضح: أن رضا الله سبحانه إنما هو في حفظ مصلحة الإسلام العليا، وكرامة المسلمين، وحريتهم في الدعوة إلى الله سبحانه بأمن ودعة واطمئنان.

 

وحين يكون الداعي للصلح الذي فيه رضا الله سبحانه هو العدو فإن معنى ذلك هو أن العدو قد اعترف بك، وبموقعك، وأصبح على استعداد لأن يقبل شروطك العادلة، ومعنى ذلك هو: أنك تكون قد سجلت نصراً من أقرب طريق وأيسره. وأما إذا دعاك هذا العدو إلى صلح ظالم وفيه ذل للمسلمين، ووهن على الإسلام، فإن من الطبيعي أن ترفض صلحاً كهذا لأنه تسجيل انتصار للعدو من أسهل طريق..

 

وثمة شرط آخر: لا بد من توفره في أي عهد، وذلك من أجل أن يحتفظ بقيمته، وبفعاليته، في حسم الصراع، ثم من أجل أن لا يوجب عقد العهد ضعفاً في موقف المسلمين، وفتح باب التشكيك في حقهم، أو إعطاء فرصة المناورة للباطل. وهذا الشرط لا بد للجانب المحق من الاهتمام به، والعمل على توفيره بصورة أجلى وأتم، وهو أن: «لا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة».

 

أي أنه لا بد أن لا تكون في العهد إبهامات يمكن التشبث بها من قبل العدو، كما أنه لا بد أن يكون نفس العهد هو المعيار والمرجع والفيصل في الأمور، فلا يعتمد على مواعيد أو لحن قول، فإن ذلك يوجب وهناً في العهد نفسه، وفيه فتح باب النقض، والخيانة، من دون أن يكون ثمة حرج ظاهر في ذلك.

 

وذلك يعتمد على نباهة ودقة ذلك الذي يتصدى لعقد العهد، وهو يتحمل مسؤولية أي تقصير في هذا المجال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. آثار الحرب في الفقه الإسلامي ص659 عن السياسة الشرعية، للبنَّا.

2. هذا يؤيد بما قدمناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب من أن العرب كانوا أوفياء بعهودهم، وقد فرض عليهم هذا الأمر طبيعة الحياة التي كانوا يعيشونها حيث رأوا: أنه لا يمكنهم العيش بدون ذلك.

3. نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص117 و 118 ومعادن الحكمة ج1 ص109 وتحف العقول ص126 ودعائم الإسلام ج1 ص350 والبحار ج8 ص609 ثم شرحه ، وج77 ص240 عن النهج والتحف ، ومستدرك الوسائل ج3 ص195 وأضاف العلامة المحقق الأحمدي : أن بعضه قد نقل في كنز العمال ج15 ص165 و 166 عن الدينوري ، وابن عساكر ، ومآثر الإنافة ج3 ص6 عن صبح الأعشى ، ومفتاح الأفكار . وأشار إليه النجاشي في رجاله ص7 وذكر سنده أيضاً الشيخ في الفهرست . وقال في معجم رجال الحديث ج3 ص222 : طريق الشيخ إلى عهد مالك الأشتر صحيح . وذكره في نهج السعادة ج5 ص58 عن جمع ممن تقدم ، وقال : روى قطعة منه مسنداً في تاريخ الشام ج38 ص87 وفي النسخة المرسلة ص193 . وذكر في خاتمة المستدرك ص218 عن مجلة المقتطف عدد 42 ص248 : أنه نقله عن نسخة السلطان بايزيد الثاني ، وفي دستور معالم الحكم ص149 شواهد لهذا العهد ، ونقله في مصادر نهج البلاغة عن جمع ممن تقدم ، وعن نهاية الإرب للنويري ج6 ص19 . ثم ذكر في مصادر نهج البلاغة بعضاً من شرح هذا العهد ، مثل : آداب الملوك لرفيع الدين التبريزي ، وأساس السياسة في تأسيس الرئاسة للكجوري الطهراني ، والتحفة السليمانية للبحراني ، والراعي والرعية لتوفيق الفكيكي ، والسياسة العلوية لآل مظفر (خطية) . وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للمجلسي ، وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للمولى محمد باقر القزويني ، وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للميرزا حسن القزويني ، وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للميرزا محمد التنكابني . وشرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» للشيخ هادي القائيني البيرجندي ، وشرح الفاضل بدايع نكار المثبت في المآثر والآثار ، ونصايح الملوك لأبي الحسن العاملي . ومقتبس السياسة وسياج الرئاسة للشيخ محمد عبده ، انتزع من شرحه وطبع على حدة ، والقانون الأكبر في شرح عهد الأشتر للسيد مهدي السويج (مخطوط) ومع الإمام في عهده لمالك الأشتر للشيخ محمد باقر الناصري. ونزيد هنا في ما يرتبط بشروحه ، ما أورده السيد هبة الدين الشهرستاني في مقدمته لكتاب الراعي والرعية ص8 و 9 والشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة ص373 و 375 وج15 ص353 ، حيث أضافا إلى شروح العهد : شرح الحسين الهمداني الموسوم بهدية الحسام لهداية الحكام .

وشرح محمد صالح الروغني القزويني ، من علماء القرن الحادي عشر ، ودستور حكمت . وترجمه الوصال الشيرازي المتوفى سنة 1274 ونظمه شعراً بالفارسية . وترجم محمد جلال هذا العهد إلى التركية ، ونظمه شعراً بالتركية . فرمان مبارك لجواد فاضل . وعنوان رياست (ترجمة لهذا العهد أيضاً للسيد علي أكبر بن سلطان العلماء السيد محمد النقوي اللكنهوي) . هذا كله عدا عن شرح شراح النهج له في ضمنه كالمعتزلي وابن ميثم وغيرهما .

بقي أن نشير إلى أن صاحب الذريعة قد قال في ج15 ص262 : (نسخة العهد بخط ياقوت المستعصمي موجودة في المكتبة الخديوية بمصر تاريخ فراغها سنة ثمانين وستمائة كما في فهرسها) .

4. القرآن الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 4، الصفحة: 187.

5. القرآن الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 34، الصفحة: 285.

6. القرآن الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 91، الصفحة: 277.

7. القرآن الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 61، الصفحة: 184.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد