مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عادل العلوي
عن الكاتب :
السيد عادل العلوي، عالم فاضل وخطيب وشاعر، ولد في السادس من شهر رمضان 1375ﻫ في الكاظمية المقدّسة بالعراق. درس أوّلاً في مسقط رأسه، قبل أن يسافر مع أفراد عائلته إلى قمّ المقدّسة عام 1391ﻫـ ويستقرّ فيها مكبًّا على الدّرس والتّدريس والتأليف، له كثير من المؤلّفات منها: دروس اليقين في معرفة أصول الدين، التقية بين الأعلام، التوبة والتائبون على ضوء القرآن والسنّة، تربية الأُسرة على ضوء القرآن والعترة، عقائد المؤمنين، وغير ذلك. تُوفّي في السابع والعشرين من ذي الحجّة 1442ﻫ في قمّ المقدّسة، ودفن في صحن حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

لوازم الأنس الإلهي (2)

الحضور

 

لازم الأنس أن يكون المستأنس حاضراً في محضر من استأنس به، فالذي يستأنس بالله يرى نفسه حاضراً بين يدي ربّه وأنيسه، وكما يرى ويحسّ أنّه بمنظر الله ومسمعه وأنّه حاضر عند ربه، كذلك يدرك بأنّ الله حاضر عنده، وأنّه أقرب إليه من حبل الوريد، وأينما يولّي وجهه، فثَمّ وجه الله، فهو معه أينما كان، ومتى ما كان، يخاطبون الله عن المشاهدة ويكلّمونه عن الحضور. وإنّ العالم هو محضر الله فلا يعصي الربّ من كان في حضرته، ولازم الحضور هو الشهود القلبي.

 

المشاهدة

 

من عرف الله وأحبّه ووجد نفسه حاضراً بين يدي الله، وأنّ العالم محضر الله، فلا شكّ يصل إلى مقام الشهود، فلا غيب بعدئذ، ويأنس بالله عن مشاهدة، ويعبد ربّه عن رؤية. ولكن لا تراه الأبصار، إنّما تراه العيون والقلوب التي في الصدور، وكيف يعبد ربّاً لم يره، بل لا يرى شيئاً إلاّ ويرى الله معه وقبله وبعده. قال الله تعالى: (ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه...) (1).

 

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): اعبد الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك. في قوله تعالى: (ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً)، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا قرأ هذه الآية يبكي بكاءً شديداً.

 

صنع الجميل

 

من أنس بالله وعرف ربّه بأنّه العالم القادر الحيّ الكريم الرحيم الشفيق الرفيق الودود، له الأسماء الحسنى، وعلم أنّه حبيب من أحبّه، والحبيب لا يخطر على باله أن يؤذي حبيبه، ولا ينوي ذلك. فمن وصل إلى هذا المقام، فإنّه يرتاح في أعماق وجوده، ويحسّ بالاطمئنان، ومن ثمّ بذكر الله يطمئن قلبه، ويرى صنع الله في حقّه جميلًا، فإنّه الجمال ويحبّ الجمال ولا يفعل إلاّ الجميل.

 

زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليهما السلام) العارفة بالله والمشتاقة إليه، وقد وصلت إلى مقام الأنس بالله، تدخل في مجلس ابن زياد اللعين بعد شهادة إخوتها الكرام وشهادة سيّد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام) وشهادة أصحابه الأبرار، وسبي أهل بيته الأطهار، وابن زياد القذر الحقير يبغي أن يجرح عواطفها أكثر فأكثر، ويكلّ قلبها، كما يبرز موقفه المخزي بأنّ الذي حدث يوم عاشوراء إنّما هو صنع الله، وليقول بالجبر، فخاطبها قائلًا: كيف وجدت صنع الله؟ فتقول بكل بسالة وبطولة ومعرفة وعشق: (ما رأيت إلاّ جميلًا)، إذ رأت جمال الله فعشقته، وعشّاق يوسف يقطّعنّ أيديهن، فكيف بعشّاق الله وكيف بزينب الكبرى؟ ترى قرابين آل محمّد مضرّجين بدمائهم الزكيّة، وتحمل جسد أخيها الحسين تنادي ربها: (اللّهم تقبّل هذا القربان من آل محمّد) فلا ترى ذلك إلاّ جميلًا، فإنّ ربّها ومعبودها جميل، ولا يفعل إلاّ الجميل، ولا يصدر منه القبيح، فإنّه منزّه عن القبائح والنقائص والاحتياج والإمكان، فهو واجب الوجود لذاته، مستجمعاً لجميع صفات الجمال والجلال.

 

ثمّ بعد ذلك تقول زينب إنّ أخاها الحسين وأصحابه قوم كرام برزوا إلى مضاجعهم للشهادة، إلاّ أنّ يزيد السفّاك وأعوانه الظلمة قتلوهم، وستكون المحاكمة يوم القيامة ويكون الحكم هو الله سبحانه، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. أجل: من أنس بالله فإنّه وصل إلى مقام الرضا ومقام التسليم، وهما من أعلى المقامات في العرفان والسير والسلوك. إنّ الله جميل ويحبّ الجمال، ويحبّ معالي الأخلاق، ويكره سفسافها.

 

الأهلية

 

المستأنس بالله يكون من أهل الله ومن حزب الله، فإنّ لازم الأنس الأهليّة ويقابلها التوحّش، كما يقال: حيوان أهلي وحيوان وحشي.

 

فمن أنس بالله وكان من أهل الله، إنّما يستأنس كلّ ما عليه اسم الله، إذ حينما يأنس بالله في سرّه وباطنه، ويتجلّى هذا الأنس الباطني على سلوكه وأفعاله وحركاته وسكناته، فإنّه يأنس بمجالس الله، ويأنس بمحبّي الله وعشّاقه، يأنس بالمؤمنين، ويستوحش في باطنه من الناس، كما يفرّ من معاشيقهم، فإنّهم إذا أحبّوا الدنيا والمال والبنون، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، فغفلوا عن ذكر الله، والمستأنس بالله يخاف على نفسه أن يغفل بغفلتهم، فيفرّ ويستوحش منهم، يستوحش من مجالس البطّالين، وإذا زال قدمه في سيره إلى الله، وإذا أحيل بينه وبين خدمته لله يعاتب نفسه، ويذكر نقاط الضعف في حياته، ويناجي ربّه في ظلم الليل ودياجي الأسحار والدموع تسيل على وجنتيه، رافعاً يده وناصباً وجهه إلى الله، صارخاً ناحباً:

 

ما لي كلّما أقول قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك؟ سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني ـ أي أبعدتني عنك ـ أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني ـ أي أنكرتني ورفضتني ـ أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني ـ فمن لم يحضر مجالس العلم ليتعلّم وليعمل بعلمه، فإنّه يصاب بخذلان الله، وكيف للمخذول أن يسير إلى الله وأن يخدم ربّه؟ ـ أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين ـ فإنّ الإنسان لما يحمل من النفس الأمّارة وعدم تهذيبها وتزكيتها فإنّه يألف ويأنس بمجالس البطّالين أي الباطل العاطل، ومن ثمّ يستوحش من مجالس العلم والذكر ومجالس المؤمنين المتّقين، فلعلّك يا إلهي وجدتني ورأيتني آلف مجالس البطّالين ـ فبيني وبينهم خلّيتني ـ وجعلت بيني وبينهم الصداقة والخلّة والأنس بهم ـ وأمثالها توجب عروض البلايا والمصائب التي تحول بين الإنسان وبين ربّه، وتزيل القدم عن السير والسلوك، ويطرد عن باب الله، وينحّى عن الخدمة الإلهية.

 

فكيف لمن أنس بالله لم يستوحش من الناس؟ المؤمن بالله يأنس ويألف بكل ما فيه اسم الله سبحانه، وذكر عليه اسم الله، وتصبّغ بصبغة الله، وتقوّل بقول الله، إذ من أصدق من الله قيلاً، ومن أحسن من الله صبغةً، فيأنس بمجالس العلماء والمحبّين وعشّاق الله، يأنس بكتاب الله وتلاوته، يأنس بسنن وآداب أنبياء الله وأوصيائهم، ويستوحش ممّـا في أيدي الناس، فإنّ من أنس بالله، استوحش من الناس، كما قالها الإمام العسكري (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يونس : 61.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد