مقالات

الاستعداد للسفر الطويل في مواعظ الإمام الحسن (ع)

الشيخ عبدالله اليوسف

 

من روائع الإمام الحسن المجتبى (ع) مواعظه البليغة التي تحث على الاستعداد للسفر الطويل في إشارة إلى عالم الآخرة، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن الدنيا الزائلة إلى الدنيا الخالدة.

 

 ومن هذه المواعظ المؤثرة ما روي عنه  أنه قال: «اسْتَعِدَّ لِسَفَرِكَ، وَحَصِّلْ زَادَكَ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَطْلُبُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُكَ»[1] في هذا النص تعبير بلاغي رائع وعميق، إذ شبَّه الإمام الموت بالسفر، لأنه انتقال من مكان إلى آخر، ولكن من مكان مؤقت وهو الدنيا إلى مكان دائم وهو الآخرة، وهذا السفر الطويل الذي لا رجعة بعده يحتاج إلى تحصيل أحسن أنواع الزاد وأفضلها حتى ينال النعيم في مقره الخالد بعد انتقاله إليه.

 

ويشير الإمام في هذه الموعظة البليغة وغيرها إلى عدة نقاط مهمة، وهي:

 

1-الاستعداد للرحلة الطويلة

 

إذا أراد الإنسان أن يسافر ولو سفرة قصيرة يأخذ معه كل ما يحتاجه من متاع وأغذية وأغراض يحتاجها في سفره، فكيف إذا كان سفره طويلًا وبلا رجعة؟! يحتاج إلى تحصيل الزاد الجيد، والذي يبقى أثره ويدوم نفعه، وكما قال الإمام: «اسْتَعِدَّ لِسَفَرِكَ، وَحَصِّلْ زَادَكَ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِكَ» ومن أجل تحصيل زاد السفر الطويل عليه أن يأخذ بأحسن الزاد وأنفعه وهو زاد التقوى ويلتزم بلوازمه، قال الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[2] .

 

ولذا من المهم للغاية أن يخطط المرء لآخرته، ويستعد لملاقاة ربه في أي وقت، فيعمل ما يقدر عليه من الباقيات الصالحات بما يبقى نفعه ويدوم أجره، ويجهز من زاد العمل الصالح ما يستطيع من فعل الخيرات والمبرات، وإتيان الأعمال الصالحة.

 

2-عدم الاغترار بالدنيا

 

إن الدنيا دار فانية زائلة، وهي دار ممر وليست بمقر دائم؛ فالمغرور من غرته، والمفتون من فتنته، وهي دار بلاء وفتنة، فلا تخلو من المنغصات والمحن والابتلاءات، والإنسان المؤمن عليه ألا يغتر ببهارجها وزينتها ومتاعها، وعليه الاستعداد لرحلة الإقلاع منها ومن دون رجعة، وقد ورد عنه  أنه قال: «إنَّ الدُّنيا دارُ بَلاءٍ وفِتنَةٍ، وكُلُّ ما فيها إلى‏ زَوالٍ، وقَد نَبَّأَنَا اللَّهُ عَنها كَيما نَعتَبِرَ، فَقَدَّم إلَينا بِالوَعيدِ كَي لا يَكونَ لَنا حُجَّةٌ بَعدَ الإِنذارِ، فَازهَدوا فيما يَفنى‏، وَارغَبوا فيما يَبقى‏»[3]  فلأنها تفنى، وكل ما فيها إلى زوال على العاقل الحصيف أن يزهد فيها، وألا يلهث خلف حطامها، ولا يركن إلى خدعها ومكائدها، قال تعالى محذرًا من الاغترار بالدنيا: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بل كونوا على يقظة من الاستغراق فيها، ونسيان الآخرة، فيفاجئكم الموت من حيث لا تحتسبون.

 

وعلى المرء أن لا يغتر بهذه الدنيا؛ لأنه محاسب على كل شيء يعمله فيها، فقد ورد عنه: «اعْلَمْ أَنَّ فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ، وَفِي الشُّبُهَاتِ عِتَابٌ»[4]  ففي الحلال حساب؛ بمعنى أنه سيسأل عن الحلال كيف اكتسبه؟ وكيف أنفقه؟ وكيف تعامل معه؟ وفي الحرام عقاب، فلكل ذنب عقاب، ولكل معصية جزاء من جنسه؛ وفي الشبهات عتاب إذا لم يتوقف المرء عند الشبهة، فالمؤمن كامل الإيمان من يتوقف عن فعل أي شيء يشتبه به أو يشك فيه، وإلا عرَّض نفسه للعتاب والملامة في يوم الحساب.

 

وأسلم القلوب ما طهرت من الشبهات، فقد قال: «أسلَمُ القُلوبِ ما طَهُرَ مِن الشُّبُهاتِ»[5] فمن يطهر نفسه من كل شبهة، ويتوقف عن اقتحام كل ما يشتبه فيه فهو سليم القلب، ولا خوف عليه إن جاءه الموت بغتة؛ وأما من امتلأ قلبه بالحرام، وبطنه من الحرام، وماله من الباطل فعليه أن يخاف إن جاءه الموت؛ لأن حسابه عسير، وقلبه سقيم، ونفسه مريضة بالمحرمات والموبقات.

 

3-ترطيب القلوب

 

من فوائد الاستعداد للرحيل من الدنيا:  ترطيب القلب بذكر الله تعالى، واستذكار الآخرة، وأما من يغفل عن آخرته، وينسى ربه فإن قلبه يكون قاسيًا كالحجارة أو أشد، قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[6] ، ويقول تعالى متوعدًا أصحاب القلوب القاسية: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾[7].

 

إن الإنسان بحاجة ماسة إلى تليين قلبه بذكر الله، والارتباط بالخلق عزَّ وجلَّ، وذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وعدم الغفلة عن الآخرة، والاعتبار بالمواعظ والعِبَر.

 

4-الاستعداد للموت

 

على الإنسان أن لا يغفل عن الآخرة، وأن يتذكر الحقيقة الساطعة وهي: قدره أن يموت في يوم من الأيام؛ فلا يركض وراء الدنيا، فإن الموت أسرع منه كما أشار الإمام  بقوله: «وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَطْلُبُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُكَ» فخذ من الدنيا بقدر حاجتك، فقد قال الإمام الحسن (عليه السلام): «فَأَنْزِلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ خُذْ مِنْهَا مَا يَكْفِيكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا كُنْتَ قَدْ زَهِدْتَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ حَرَاماً لَمْ يَكُنْ فِيهِ وِزْرٌ، فَأَخَذْتَ كَمَا أَخَذْتَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِتَابُ فَإِنَّ الْعِتَابَ يَسِيرٌ»[8].

 

واعلم أن ما تبذله من جهد كبير من أجل جمع الأموال الزائدة عن حاجتك إنما تخزنها لغيرك، يقول: «اعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَكْسِبُ مِنَ الْمَالِ شَيْئاً فَوْقَ قُوتِكَ إِلَّا كُنْتَ فِيهِ خَازِناً لِغَيْرِكَ»[9] فلا تلهث وراء الدنيا حتى تنسى الآخرة، ولا تجعل الدنيا تسيطر عليك، ولا تكن عبدًا للمال، بل اجعله في خدمتك ومن أجلك، وأنفق مما أنعم الله عليك على أهلك وعائلتك ومجتمعك، واعمل ما يمكنك من أعمال نافعة وصالحة بحيث تكون صدقة جارية لك حتى بعد رحيلك.

 

وحتى لا يغفل المرء عن الآخرة عليه دائمًا أن يتذكر الموت، وأن يعمل ما ينفعه في آخرته وإن كان عليه أن لا ينسى نصيبه من الدنيا كما قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[10]

 

وكلما صغرت الدنيا في عين الإنسان رغب أكثر في الآخرة، بينما من تكون الدنيا أكبر همه، ومبلغ غايته فإنه يغرق أكثر في متاع الدنيا، وينسى الموت الذي لا مفر منه، فيخسر آخرته، وقد أشاد الإمام الحسن بصديق له لأنه كان ينظر إلى الدنيا بعدم اهتمام، فقد قال الإمامُ الحسنُ (عليه السلام): «أيّها الناسُ، إنّما أُخبِرُكُم عن أخٍ لي كانَ من أعظَمِ الناسِ في عَينِي، وكانَ رأسُ ما عَظُمَ به في عَينِي صِغَرُ الدنيا في عَينِهِ‏»[11].

 

والمؤمن يحسب خطواته بدقة، ويترقب في كل لحظة أن يطرق بابه هادم اللذات، ومفرق الأحباب، فيبادر مسرعًا إلى العمل الصالح قبل قدوم الأجل، وتحصيل التقوى قبل نفاد الوقت المحدد للبقاء في دار الفناء، وقد حثَّ الإمام الحسن (ع) على ذلك بقوله: «اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَجِدُّوا فِي الطَّلَبِ وَتُجَاهَ الْهَرَبِ، وَبَادِرُوا الْعَمَلَ قَبْلَ مُقَطَّعَاتِ النَّقِمَاتِ وَهَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا وَلَا تُؤْمَنُ فَجِيعُهَا وَلَا تَتَوَقَّى فِي مَسَاوِيهَا، غُرُورٌ حَائِلٌ، وَسِنَادٌ مَائِلٌ، فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْأَثَرِ، وَازْدَجِرُوا بِالنَّعِيمِ وَانْتَفِعُوا بِالْمَوَاعِظِ، فَكَفَى بِاللَّهِ مُعْتَصِماً وَنَصِيراً، وَكَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَخَصِيماً، وَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً، وَكَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَوَبَالًا»[12].

 

فلا تسوف في القيام بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر عن فعل الخير، ولا تؤجل أداء الحقوق إلى أصحابها، وتزود بالتقوى، وبادر إلى العمل الصالح، وسارع إلى فعل الخيرات قبل حلول الأجل؛ فالسعيد من اتعظ بالعِبَر، واعتبر بالأثر، وسارع إلى التوبة والاستغفار حتى يكون جاهزًا للسفر الطويل في أي لحظة نودي عليه بالإقلاع من هذه الدنيا الفانية إلى عالم الآخرة الباقية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] بحار الأنوار: 44/139/6.

[2] سورة البقرة: 197.

[3] التوحيد: ص 378 ح 24، المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 31.

[4] بحار الأنوار: ج 44، ص 138 – 139، ح 6.

[5] تحف العقول: 235.

[6] سورة البقرة: 74.

[7] سورة الزمر: 22.

[8] بحار الأنوار: 44/139/6.

[9] بحار الأنوار: 44/139/6.

[10] سورة القصص: 77.

[11] بحار الأنوار: 66/ 294/ 24.

[12] بحار الأنوار: 75/ 109/ 20.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد