لا يمكن للإنسان أن يحيا في هذه الدنيا من دون أنظمة عامّة تُوفّر له حياةً كريمةً، فالنظام أمرٌ ضروريّ، ومسألةٌ بديهيّة، لا تحتاج إلى دليلٍ أو برهان. لذا، كان مِن الضروريّ بَثّ هذه الثقافة في مجتمعاتنا، إذ إنّها تدفع الناس إلى الالتزام والتقيُّد بِالقوانين وفَهْم ضروراتها والأخطار الناجمة عن عدم التقيُّد بها، فَضلاً عن المخالفة الشرعيّة وَالقانونيّة، فقد يَصِل التعدّي على هذه الأنظمة إلى حَدّ الإضرار بحياة الناس، فَيتحوَّل الإنسان إلى كائنٍ ظالم ومُفسد تنبغي معاقبته.
النظام العامّ
هو مجموعة من القواعد والضوابط التي يتوقّف عليها استقرار الحياة الإنسانيّة وتوازنها على الأصعدة الاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة. وإنّ نقيض النظام العامّ هوَ الفوضى والهرج والمرج وتفشّي شريعة الغاب، بِكلِّ ما تستتبعه مِن فساد ورذيلة وفقدان التوازن وشيوع الجريمة وغلبة الأقوى، وانعدام أيّ شكلٍ مِن أشكال العدالة، والانحطاط على المستويات كلّها.
إنّ العبادات -في جوهرِها- ليسَت تنظيماً لحياة الفرد مع ربّه فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى تنظيم علاقته بِمُحيطه ومجتمعه. ولَعلّ الجانبَ الأهمَّ في العباداتِ ما يرتبط بالحياة العامّة وتنظيمها، وَهو -في الواقع- يُعدُّ مِحور الشرائع وروح العبادات وجوهر الارتباط الحقيقيّ بالله تعالى.
1. الصلاة: تمثّل حالة عروج روحيّ إلى الله، تُسهم في إيجاد ضابط أخلاقيّ عند المصلّي يمنعه مِن الاعتداء على حقوق الآخرين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ﴾[1].
عن الإمام الصادق(عليه السلام): «قال الله تبارك وتعالى: إنّما أقبل الصلاة ممّن تواضع لعظمتي، ويكفّ نفسه عن الشهوات من أجلي، ويقطع نهاره بذكري، ولا يتعاظم على خلقي، ويطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم المصاب، ويُؤوي الغريب...»[2].
2. الصوم: فهو بِبُعده العامّ، يُشارك فيه الصائم الآخرين مشاعر الجوع والعطش؛ ما يخلق فيه حافز المبادرة إلى قضاء حوائج الآخرين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّمَا فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ الْجُوعِ فَيَرْحَمَ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئًا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَنْ يُذِيقَ الْغَنِيَّ مَسَّ الْجُوعِ وَالْأَلَمِ؛ لِيَرِقَّ عَلَى الضَّعِيفِ، فَيَرْحَمَ الْجَائِعَ»[3].
3. الحجّ: فريضة لا تنقل العبادة مِن دائرة الفرد الضيّقة إلى دائرة المجتمع فَحَسب، بل تسمو به ليكون جزءاً من نظام الأمّة وفاعلاً فيه، وترقى به لِيُصبح فرداً يحمل هموم الأُمّة ويسعى إلى تحقيق أهدافها، ويبذل ما بِوِسعه ليخفّف آلام الآخرين ما أمكَنَه، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «إنّ إحدى الفلسفات الاجتماعيّة لهذا التجمّع العظيم توثيق الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام»[4].
وَالزكاة والخمس والصدقة والكفّارات والهديّة والفدية وسواها مِن العبادات الماليّة، فإنّ جوهرها الحقيقيّ حِفظ النظام العامّ مِن أخطار الفَقر والعوز والجهل وما تستتبعه هذه الظُلُمات مِن مآسِيَ وويلات.
الإطار العامّ للعبادات
إنّ مِن أكبر الشواهد على البُعد العامّ للعبادات ما رُويَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنَّ على كلِّ مُسلِم في كلِّ يومٍ صدقة»، فَقال رجل: مَن يطيق ذلك؟ قال (صلى الله عليه وآله): «إماطتك الأذى عن الطريق صدقة، وإرشادك الرجل إلى الطريق صدقة، وعيادتك المريض صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وردّك السلام صدقة»[5]. وبالتأمُّل في شواهد هذا الحديث، نجد أنّ البُعدَ الأساسيّ فيه ذو علاقة بتنظيم الحياة العامّة وإيجاد التوازن فيها؛ فَمفهوم الصدقة -كغيره مِن المفاهيم- لم يَعُد أمراً ماليّاً فَحسب، بل إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسَّع دائرته ليَشمل العناوين المرتبطة بالنظام العامّ كلّها، وأدرجها في دائرة العبادات.
المسلم وسلوكه الاجتماعيّ
إنّ نظام العبادات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الاجتماعيّ للإنسان، فرداً وجماعةً، ولا تفريق بينهما من وجهة نظر الإسلام الذي يُظهر أنّ حياة الإنسان كلّها، وبأبعادها الدينيّة والدنيويّة هي لله عزّ وجلّ؛ وهذا ما تشير إليه الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تعريف المسلم، إذ يقول: «المسلم مَن سلِم الناس من يده ولسانه، والمؤمن مَن ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم»[6].
وفي الحديث عن صفات المؤمن، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهَزَاهِز[7]، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة. إنّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرفق أخوه، والبرّ والده»[8].
من مجمل هذه الروايات، يتبيّن لنا أنّ السلوك الاجتماعيّ للإنسان المسلم ينبغي أن يكون منسجماً مع نظام العبادات؛ لأنّ مَن لا يصلّي ولا يصوم... لن يتورّع عن التعدّي على الآخرين وأذيّتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ - مركز المعارف للتأليف والتحقيق)
[1] سورة العنكبوت، الآية 45.
[2] البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدين الحسينيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1370هـ - 1330ش، لا.ط، ج1، ص16.
[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص73.
[4] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ قدس سره)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، إيران - طهران، 1430ه - 2009م، ط1، ج19، ص298.
[5] قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات (سلوة الحزين)، مدرسة الإمام المهديّ (عليه السلام)، إيران - قمّ، 1407ه، ط1، ص98.
[6] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قمّ، 1379هـ - 1338ش، لا.ط، ص239.
[7] الفتن.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص47.
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
د. سيد جاسم العلوي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ شفيق جرادي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
حيدر حب الله
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مصباح يزدي
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
عبدالله طاهر المعيبد
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
دلالات وآثار زيارة الأربعين
معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾
مقتل الامام الحسين (ع) عند ابن كثير الدمشقي
أثر العبادة في السلوك الاجتماعيّ
الحدث الحسيني وإمكانات التحقق التاريخي (2)
أربع من كنّ فيه كان في نور اللّه الأعظم
أمين الحبارة يشارك بعملَين له في الصّين
زكي السّالم: عقدة اللايكات وكآبة المنظر
ترجمة الحسين (ع) ومقتله في تاريخ ابن عساكر
الرحمة الشاملة المطلقة والرحمة الخاصة